كثيرا ما ندافع عن بعض المفاهيم المعاصرة، لمجرد الدفاع عنها دون علم بماهيتها، او دراستها بشكل علمي، وتحليل كافة ابعادها، او دراسة اوجه الخلاف بينها وبين نقيضها، لبلوغ مرحلة الايمان بها، والقدرة على تغيرها نحو افضل الصيغ لتتلائم مع المجتمعات الحضارية المعاصرة، لكي لا يكون دفاعنا عنها لمجرد الاستثمار السياسي، اوالفكري، اوالاجتماعي، وخاصة واننا نتمسك بها لمجرد المعارضة وفق ما تقتضيه موضة العصر المستوردة ضد نظام سلطوي، او جهة عامة، او ايديولوجيا معينة، دون ان ندرك باننا نتحاشى تطبيقها على علاقاتنا الشخصية كأفراد في المجتمع العملي المحيط بنا والذي نؤثر فيه بشكل او باخر، سلبا او ايجابا، او اننا ندرك ذلك ونتحايل على المفاهيم والقوانين ونطالب الغير بتطبيقها دون ان نملك القدرة او الوعي الفكري لتطبيقها على افعالنا وعلاقاتنا كافراد، هذا ما يبقي هذه المفاهيم مثالية في الوعي الشرقي، ويبقى الانسان الشرقي المنادي بالديمقراطية سريع التغير والتحول نحو الديكتاتورية والفردية المفرطة عند استلامه لادنى منصب سلطوي.
وللوصول الى المعرفة في هذا المضمار لابد من الكشف عن نشاط الانسان الاجتماعي كفرد فاعل ومؤثر في مفاهيم الفكر والمجتمع، لان الجهد الحسي والادراكي للفرد في المجتمع هو اداة تكوين العرف الاجتماعي، وترسيخ المفاهيم الفكرية والسياسية، ونستدل بهذا على ان الوعي والفكر هم ايضا اساس تغير وتطوير المفاهيم التي تحكم الفكر والمجتمع.
وهذا الوعي لايعتبر وعي فكري، ولايمكنه الارتقاء وتطوير المفاهيم من خلال الثبات على ما هو موجود منها في المجتمع، لانه بهذه الحالة يعيق التطوير ويدخل الارتقاء في حالة السكون، وبدون ادراك يجتر المفاهيم ذاتها بصيغ جديدة لاتساهم بتطويرها، اي يعيش باثر رجعي على الموروث الفكري والاجتماعي، او على المفاهيم المستوردة من ارث مجتمعات حضارية تجاوزت مراحل الارتقاء الطبيعي بفكرها ووعيها الاجتماعي، بحيث وصل بها الوعي المجتمعي الى تجاوز مرحلة تفسير وتطبيق فعلي للمفاهيم المثالية، وايضاح التطبيق العملي المراد من هذه المفاهيم لضبط علاقة الانسان بالانسان، ومن هذه المفاهيم quot; الديمقراطية، حماية حقوق الانسان، المعنى الحقيقي للسلطة والشعب، ازالة التميز الجنسي بين الرجل والمراة من الفكر والقوانين الوضعية والمجتمعيةquot; هذا ما يفسر الاختلاف في التطبيق العملي للمفاهيم بين الغرب والشرق، المفاهيم التي نعتبرها مثالية حولها الوعي الغربي الى مفاهيم موضوعية قابلة للتطبيق.
ومن الناحية المنطقية لايمكن الارتقاء بالفكر والحياة وتطويرهما الا من خلال إعادة محاولة اثبات صحة جميع المفاهيم، او عدم صحتها، ومن هذا التضارب في الاثبات بين المبدا ومايخالفه يمكن استخلاص صيغة فكرية تلائم مجتمعاتنا، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف هيغل لمحاولة بث روح جديدة في الحياة والفكر، كما ان جميع الفلاسفة القدماء اكدو تأكيدا قاطعا على ان الوجود متحول واعتبروا العالم صيرورة، وافترضوا تغير كل مفهوم إلى عكسه، فافلاطون مثلا اعتبر ان الوجود يحتوي المتناقضات، فهو مفرد وجمعي، سرمدي وعابر، متحرك وساكن. وهذه المتناقضات تدفع النفس إلى التأمل لفهمها وتحليلها والتوصل الى افضل المفاهيم التي تساهم في تطوير الوعي الاجتماعي المعاصر، ويرى جان جاك روسو بان التناقض شرط التطور التاريخي في الوعي والفكر الاجتماعي.
ولبلوغ المعرفة المنطقية لمتغيرات الزمن، لا بد من الجدل المادي بين المثقفين والمفكرين والشعراء والفنانين حول كل المفاهيم الذاتية والموضوعية، المثالية والواقعية. لان الجدل هو من اكثر العلوم التي تحكم تطور الطبيعة والمجتمع والفكر، لإنه منطق يعتبر الفكر والمعرفة مساويين للوجود، الذي هو في حالة حركة وتطور، ومساويين للأشياء والظواهر، ولانه يتجاوز الوجود وينتج تعاليم معرفية (ابستمولوجية) ايضا.
وهناك العديد من القضايا الجدلية تدفعنا الى التامل، والتحليل، وتوجيه الاسئلة والمناقشة.
- في مقدمة هذه القضايا البعد النفسي الاجتماعي والفلسفي للاسباب التي تؤدي الى فشل او نجاح اي حوار فكري.
- المفاهيم المثالية كالمساواة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية وامكانية موضوعيتها وتطبيقها في واقع مليء بالفروقات والمتناقضات.
- النظريات المثالية كالليبرالية والاشتراكية ومدى تطابقها مع الواقع الموضوعي.
- الديمقراطية كصيغة فلسفية تنظم العلاقة التعاقدية بين الشعب والسلطة، ومدى حمايتها للشعب من تجاوزات السلطة، اوحمايتها للسلطة من انتهازية الجماعات او الايديولوجيات الدوغمائية من السيطرة عليها من خلال صناديق الاقتراع.
- العلمانية واثرها على الاديان السماوية، هل هي ضد الاديان، ام تحميها من الاستغلال والابتزاز السياسي.
- الدوغمائية الاصولية كألية مستخدمة لاستلاب ارادة الاتباع، واستغلالها في ادلجة الاديان.
- الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومدى حمايته لحريات الانسان في الواقع المعاصر، او حماية الانسان من نفسه، او من سوء ممارسة هذه الحريات.
- التميز بين المراة والرجل على اساس الاعضاء التناسلية وقوننة هذا التميز في القوانين السماوية والوضعية، ودور منظمات الدفاع عن حقوق المراة هل هو ايجابي ام سلبي، وهذا الدفاع بحد ذاته الا يعتبر من قبيل ممارسة التميز بحق المراة، وكاننا لانعتبرها من بني الانسان، ولاتشملها مبادئ حقوق الانسان.
من اهم القضايا التي يجدر مناقشتها في المقدمة هي قضية الحوار في المجتمع الشرقي، لانه المفتاح لحل كافة القضايا، والاساس العملي لنجاح المناقشة الجدلية المنطقية التي تمكن الفكر من استخلاص المفاهيم العملية لدفع عجلة ارتقاء وتطوير الفكر والمجتمع.
اولا- الحوار:
عادة ما يكون عمق الوعي الانساني المدرك لحجم المأساة الفكرية والثقافية هو الحافز لدفع المجتمع الى التطور الحضاري، وهذا الإدراك لعمق السلبيات الثقافية لايتوفر الا لدى المصلحين والمفكرين والمثقفين الذين يمثلون رأس الهرم الفكري والثقافي، والواجهة الحضارية لكل بلد وشعب يتصف بالتطور والنهوض.
حيث تقوم هذه النخبة بمناقشة وتطوير المفاهيم من خلال الحوار الفكري القائم على تجاوز ثوابت الواقع القائم، والبحث عن المفاهيم العملية الاكثر تلائما مع سرعة تطور الفكر والوعي الاجتماعي، مثلا لولا فكر هوميروس ويوروبيدوس وأفلاطون وسقراط وأرستوفان وأرسطوطاليس لما تأسس المناخ العام الذي ازدهرت فيه العلوم العملية في الحضارةِ الإغريقيةِ، وكذلك الامر بالنسبة لعصر النهضة اذ خلق المثقفون والفلاسفة امثال فولتير وجون لوك وجان جاك روسو والأدباء والشعراء والفنانون المناخ العام لما يسمى الآن بالحضارة الغربية.
لكن هذه النخبة في المجتمع الشرقي تساهم بتثبيت ما هو قائم لانها دائما ما تطرح المفاهيم والقيم للنقاش ضمن حدود.
حيث لا تسمح بتجاوز المفهوم الرجعي للقيم والمعتقدات بحجة الحفاظ على العادات والتقاليد الاجتماعية، اوالاحكام الدينية.
وان سمحت بالتجاوز نظريا فان هذا السماح يكون للاستثمار بغرض تحقيق غايات شخصية سياسية او ثقافية، وليس بهدف تطوير الفكر والمجتمع، وكما يرى كانط فان التجاوز عندما لايكون ناجما عن الايمان ببلوغ المعرفة لايمكن ان نصل الى تلك المعرفة التي تساهم بتطوير الوعي الاجتماعي.
وهذه الرجعية الفكرية والاجتماعية لدى نخبة المجتمع تنتج حوار عقيم، وبالضرورة يؤدي هذا العقم الى فشل في تحقيق خطى عملية نحو تطوير الراي والمفاهيم وحل المعضلات الفكرية والاجتماعية، ويمكن رد هذه السلبيات في الثقافة الشرقية الى الثقافة النفسية والسيكولوجية للانسان الشرقي، وباعتقادي يمكن مناقشة هذه العيوب الثقافية ضمن الاسباب التالية :
اولا: من اكثر العيوبِ الثقافيةِ التي يعاني منها الانسان الشرقي هي اعتبار رأيه ووجهة نظره جزء من كيانِه، وتكاد تكون مثل الأعضاءِ والملامحِ فهو من جهة يعتز بها اعتزازاً يخرج العلاقة من إطار الموضوعية، ويحولها الى ذاتية وشخصية وبالتالي فإنها جزء من كرامته وكبريائه، اي ان الانسان واراءه يشكلان كلا واحدا، ولايمكن الفصل بينهما، والتنازل عن الراي امام راي اخر اكثر اقناعا يعتبر كالتنازل عن الكرامة، ويستحيل أن تحدث تلك الثورة الفكرية والخصوبة الثقافية في ظل مناخٍ عام يكون الإنسانُ وآراؤه فيه شيئاً واحداً.
ثانيا: اعتياد الانسان الشرقي الدوغمائية، والمثالية في تقييمه للامور، وتقسيمها الى ابيض واسود، مما يجعله اسير ذهنية quot;التحريمquot;، فالامر حلال أو حرام quot;بالمطلقquot;، المؤمن والكافر، الثورة والثورة المضادة، الثوري والمرتد، الوطني و الخائن، المواطن و العميل، وهذا المنطق الثنائي، معنا ام علينا، يؤدي قتل هامش الموضوعية وخنق العقل الانساني، واسره ومنع انطلاقه في فضاء الواقع ومقارنة المعتقدات والقيم والمفاهيم بوضوح.
ثالثا: تفشى السطحية التعليمية والثقافية وانعدام التربية على الايمان بالديمقراطية في المجتمع من قاعدتِه لقمتِه مروراً بالأسرة والمدرسة والوظيفة والمناخ السياسي والثقافي العام.
وفي النهاية وقبل الدخول في شرح مفصل لهذه السلبيات الثلاث لابد من اجراء مقارنة بين الية الحوار لدى الانسان الغربي، والمجتمعات الاخرى. حيث انه لا يعتبر آراءه جزء منه وبالتالي من كرامِته وكبريائه، فالإنسان الغربي يفصل بين quot;ذاتهquot; وquot;آرائهquot;، ويبدو أثناء الحوار وكأنه يضع آراءَه على مائدة الحوار مع آراء أخرى، لتتعامل وتتفاعل الآراء مع بعضِها بمعزل عن اتصالها بكينونة أصحابِها في عملية يستقل فيها الإنسان عن الآراءِ المطروحة بشكل حر وخال من العصبية والانفعالِ، وبعد انتهاء عملية التفاعل فكل طرف من اطراف الحوار ياخذ اراء جديدة من نتائج تفاعل وجهات النظر.
......يتبع......
فارس التمو
التعليقات