ثمة حقيقة لا مناص من التهرب من وقائعها مهما أنتهت صورة الصراع الدائر في شوارع طهران اليوم و في أزقة ( قم ) الخلفية وهي تلك المتعلقة بأن إيران ستخرج من الصراع الدائر حاليا بصورة مختلفة بالكامل عن إيران ما قبل الإنفجار الشعبي العارم الذي ولده محاولات الجناح المحافظ المدعوم من الولي الفقيه للإنفراد بالسلطة و قيادة سفينة البلد نحو آفاق مجهولة من الصراعات الإقليمية و الدولية التي لن تنجو في النهاية إيران من أضرارها و توابعها، فالعقلية العدمية و الأساطير الخرافية التي توجه سياسات نجاد و جماعته يعلم الشارع الإيراني المتفتح جيدا بنتائجها الكارثية و التي سيدفع ثمنها الشعب الإيراني وحده.

فبعد ثلاثين عاما من قيام الكيان الإسلامي بشكله الذي أطره الإمام الراحل الخميني يبدو أن حسابات الحقل ما عادت تنطبق على حسابات البيدر و بأن الحصيلة المتوخاة لم تكن بمستوى الطموح المنشود شعبيا، صحيح أن إيران إستطاعت تجاوز العديد من العقبات و المشاكل و أستمرت كدولة و كيان في ظل بحر العواصف الهائجة في المنطقة، إلا أنه من نافلة القول يمكن ملاحظة أن الصراع كان مستعرا بصمت بين التيارات المتباينة، تيار الشباب الإصلاحي الطموح الهادف لتجاوز مرحلة الأزمات الماضية و الهادف لبناء و تشكيل دولة عصرية و نظام حضاري إسلامي المظهر و متناسب مع روح العصر و قيمه، و بين تيار متشدد لا يعيش إلا على الأزمات و المشاكل و يحاول تصدير أزماته الداخلية للخارج بغرض إستمرار عقلية الحشد الثوري وهو ما يفضله الولي الفقيه السيد علي خامنئي على الأرجح و الذي خرج عن صمته و تحفظه المألوف بصورة دراماتيكية ليبارك لأحمدي نجاد فوزه المفبرك و المرتب في الإنتخابات الأخيرة قبل أن ينظر مجلس صيانة الدستور بالإعتراضات القانونية و قبل أن تتم المصادقة الرسمية على نتائج الإنتخابات!! و هو تصرف مثير للدهشة و لا يتناسب إطلاقا مع الحيادية التي يفترض بالولي الفقيه الجامع للشرائط أن يبديها!!

مما أثار حفيظة و غضب أشد عناصر النظام ولاءا و تمسكا بقواعده الذهبية و هو رجل إيران القوي و صانع سياستها و الخبير في دهاليزها الشيخ هاشمي رفسنجاني الذي لن يغفر أبدا لنجاد حملاته الإعلامية التشويهية ضده و التي أظهرته بمظهر الفاسد!!

فتلك الخطيئة ستترتب عليها نتائج كبيرة للغاية على مستوى مستقبل إدارة السلطة و الصراع في إيران، ورفسنجاني الذي يشغل منصب رئيس مصلحة تشخيص النظام و رئيس مجلس الخبراء يمتلك أوراق مهمة جدا في صراعه وهي تلك المتعلقة بضمان كسب جانب المراجع الفقهية الكبرى المقيمة في قم و خصوصا المعارض التاريخي و النائب السابق للخميني الذي تم إبعاده عن الواجهة في أيام الخميني الأخيرة و أحد أبرز وجوه الثورة الإيرانية وهو آية الله الشيخ حسين منتظري الذي عاش طيلة السنوات العشرين المنصرمة بما يشبه الإقامة الجبرية في ( قم ) و كان يعلن آرائه المعارضة و المنتقدة بإستمرار وهو كالعادة ينتظر فرصة الإنتقام ممن أذلوه و قمعوه و حجموه كما أن أعلمية الخامنئي لا تقاس أبدا بمستوى أعلمية المنتظري، إضافة لتبرم كل من الفقهاء و آيات الله العظام جوادي آملي، وعبد الكريم أردبيلي، و يوسف صانعي، وهؤلاء جميعا لا يتفقون مع رؤية الخامنئي بل أنهم أفتوا بضرورة إحترام رأي الشارع الإيراني الذي يصر الأخير على تجاهله و عدم الخضوع له و يرفض إحتمالية التزوير !! رغم أن النتائج الأولية للطعن و إعادة الفرز تبين من أن هنالك أصوات إضافية أكثر من تلك المسجلة في القوائم الإنتخابية !! و بما يعني ضمنا بأن صفة ( الكذابين ) التي أطلقها المرشح مير حسين موسوي و آية الله كروبي لها مصداقية مهمة!! و عندما يثار موضوع الكذب و الكذب الرسمي و الموثق فإن في ذلك مخالفة كبرى لمنصب الولاية الفقهية الذي تعرض لهزة كبرى لا دخل لا للغرب و لا للشرق بها بل أنها من إنتاج وطني داخلي محض ( ساخت إيران )!! أي صناعة إيرانية مزورة و ركيكة!!

الحل في الخروج من عنق الأزمة معقد و مكلف للغاية لأنه يمس مصداقية الفقهاء!! و في ذلك إثم لو تعلمون عظيم، و الحل سيكون مؤلما بطبيعة الحال و بشكل غير مسبوق و يتمثل في إحتمال سحب الثقة عن الولي الفقيه و إختيار آخر بديل لا يبدو أنه متوفر حاليا بشكل جلي إلا من خلال اللجوء للقيادة الجماعية للفقهاء و الخبراء و التي ستدخل البلاد و العباد في نفق مجهول و جدل جديد و بما يعني في النهاية تدهور مكانة نظرية ولاية الفقيه التطبيقية التي أثبتت الأحداث عن عقمها و عدم جدواها و بما يؤكد وجهات نظر الفقهاء و العلماء الرافضين لها أو المتحفظين عليها، فالفقيه في البداية و النهاية إنسان عادي غير معصوم تتجاذبه الأهواء و المصالح وهو لا يمكن أن يكون من جنس الآلهة أبدا فالنفس أمارة بالسوء أو على الأقل بسوء التقدير و رقابة الأمة هي وحدها التي تمنع الزلل و تحد من الإستمرار في الأخطاء، إيران تتغير يا جماعة و بطريقة حركية مدهشة وهي تفاجيء العالم كل يوم بأساليب جديدة، و العالم العربي الذي يبدو أن الزمن قد توقف فيه لا يملك سوى التفرج و من ثم التعامل مع النتائج بدون خطط ولا ستراتيجيات و لا أي شيء!! بل العمل و الهرولة وفق نظرية ( على بابك يا كريم )!! أو نظرية ( عمك أصمخ ) التي هي معتمدة و ماركة مسجلة عربية؟ نرى هل توقع صانع القرار العربي تلك المتغيرات الإيرانية المدهشة و التي تنم عن حالة نشاط فكري و سياسي و حركي ما أحوجنا للإستفادة منها، لقد قررت الشعوب الإيرانية سابقا إرجاع الشاه المتسلط لحجمه الحقيقي و طردته شر طردة، و اليوم أنزلت نفس تلك الجماهير الحاكم الولي من عرشه بعد أن نزعت عنه القدسية في فضيحة قل أن يجود بها الزمان، لتبقى كل الإحتمالات مفتوحة.. أما عالمنا العربي فلا يملك للأسف سوى الإعداد ( لقمم الشخير و النخير ) و البيانات الحماسية و شعارات الردح الجماهيرية المعروفة... بالروح و الدم نفديك يا بطيخ...!! و شعار الجماهيرية العظمى الخالد: سوق الجمعة بحب القايد مجتمعة!

داود البصري

[email protected]