منذ الصباح والاذاعة الرسمية تصدح باغاني الثورة القديمة، قبل ان يشرع الرئيس في القاء خطابه السنوي، فيما القنوات التليفزيونية استعدت، كالعادة، لعرض افلام وبرامج تدين النظام الملكي وتحتفي ب quot;حركة يوليوquot;، وصديقي الاخواني يهنئني بعيد الثورة، ويتجاذب معي اطراف الحديث عن وضع مصر الآن، وآفق التغيير والى اين يذهب هذا البلد المبتلى اهله بالقهر والاستغلال؟
وان بدا متفائلا بالغد، الا اني لم اشاركه الا شعورا مناقضا تماما، وثمة سؤال باغتني فجأة :عن اي شئ نحتفل وعن اي ثورة نتحدث؟ ثورة يوليو ناصر، ام ثورة السادات المضادة والمدمرة، ام ثورة الفساد والانهاك لمصر الحالية؟!
سؤال يستحق، في رأيي، ان نطرحه جميعا على انفسنا ونحن نتابع quot;المولد السنويquot; لثورة، للأسف، تم التخلص من ملامحها الاساسية وخياراتها منذ حقبة السبعينات، ثم جرى الاجهاز عليها،تماما، في التسعينات، وقبل سنوات قليلة جرى اعلان وفاتها تحت قبة البرلمان رسميا، ومحو اى اثر لها في القوانين والدستور المصري، فضلا عن الاداء السياسي والاقتصادي وتوجهاتهما المغايرة على المستويين المحلي والدولي الذي يؤكد، في غير مناسبة، ان ثورة ناصر، تم تصفيتها تماما والعودة بمصر الى الوراء.
فهل يحق، بعد ذلك، للقاتل ان يحتفي بالمقتول؟ ويفاخر به، ويستمد منه شرعية يفتقدها ولا يستحقها، او يتخذها مناسبة لخطابات الاستهلاك المحلي التي لم تعد تنطلي على احد، ويجرى فيها الحديث الاجوف عن الحفاظ على مكتسبات الثورة وحقوق الفقراء.
فأين مكتسبات الثورة وأين حقوق الفقراء؟ ولمن صار الانحياز؟
الاجابة بسيطة جدا، ولا تحتاج الى كثير جهد، للوصول اليها..يكفي ان تنظر حولك، لترى المستوي المعيشي لغالبية الشعب المصري واتساع رقعة الفقر وسكن العشوائيات وجيوش العاطلين من كل الاعمار والحالة الصحية والنفسية والاخلاقية المفزعة، لاجيال فقدت الانتماء والولاء لبلد ضاق بها ولم يعطيها ابسط حقوقها، فراحت تبحث عنها في اصقاع الارض، ولو كان الثمن الموت غرقا في البحر، او الارتماء في احضان العدو الصهيوني ومصاهرته او حتى التطرف الديني والعنف السياسي او الاجتماعي المتنامي.
على الجانب الاخر، القصور كل يوم تبني هنا وهناك وجدران الفصل والتمييز الواقعية او المعنوية تقام وتستطيل بين الطبقات، والمليارات تنهب وحياة السفه والاستعلاء والاستهتار بكل قيمة تتجلي بفجر، وسط نخب السلطة والمال التى تزاوجت، وانجبت هذا المناخ الفاسد الذي اعاد مصر مرة أخرى الى سنوات ما قبل الثورة، حيث طبقة النصف في المائة المسيطرة على كل شئ، الغارقة في نعيم بلد اعتبروه ضيعة خاصة لهم، ولابنائهم فقط، فيما الباقون لا حقوق لهم ولا قيمة كالعبيد، للدرجة التى اوصلتنا من جديد الى ثالوث التخلف الشهير الجوع والفقر والمرض الذي يمكننا به اختصار وضعية مصر الحالية.
لقد خدعوا الشعب، واوهموه ان القطاع العام ليس الا عبئا وان الرهان على القطاع الخاص، ثم راحوا يبيعون المصانع حتى الاستراتيجية منها التي في يوم من الايام كانت عنوانا للتحرر من التبعية الاجنبية، باعوها قطعة قطعة بمنطق التخلص من عبء ثقيل، دون ادراك للقيمة المادية والمعنوية لها وتبعات هذه الخطوة الهدامة، ثم سرعان ما تكشفت الحقيقة وهي ان الرأسمالين الجدد وقطاعهم الخاص ليسوا الا مستغليين لدماء وعرق العمال، وان الشارع وطابور البطالة هو الملجأ لملايين المصريين في سن العمل والانتاج، ناهيك عن الاموال التى سرقت وثروات الشعب لا الحكومات الفاسدة التى اهدرت، وارتهان الارداة الوطنية للخارج من بوابة quot; الاقتصاد الحرquot;، والرأسمالية الاحتكارية، والتخلص من سياسات الاكتفاء الذاتي واستقلال القرار الوطني، ثم اتبعوا هذه الخطوة بان فتحوا الباب على مصرعيه لشركاء الفساد والاستغلال من رجال الاعمال، ليسيطروا على البرلمان والحكومة وليكرسوا حالة الاستنزاف الممنهج لما تبقى من هذا البلد المعتل.
المثير للضحك ان هؤلاء المفسدين في الارض الرافعين لشعارات الاصلاح والفكر الجديد او الفرسان اللصوص، حسبما يتداعي الى ذهني مما سطره نجيب سرورquot; فرسان هذا العصر.. هم بعض اللصوصquot;، اتبعوا فسادهم بحملات تشويه ضخمة متواصلة على مدى سنوات بحق الثورة وزعيمها عبد الناصر، بل وتاريخ مصر المعاصر،على النحو الذي يذكرنا بالدعاية الامريكية والبريطانية خلال فترة الخمسينات والستينات.. من توصيف الثورة بانقلاب عسكري وان زعيمها ديكتاتور.. لم يفعل شيئا الا توريط مصر عسكريا او اعتقال المعارضين لحكمه، متناسين ان هذا الرجل العظيم، بحق، وثورته صنعت امجادا ونهضة مازلنا نتغني بها ونتحسر على ضياعها وكيف انها نقلت مصر من وضعية التابع الي الدولة القائدة، وهم انفسهم يتاجرون بها حتى الآن من وقت لاخر.
وفي الوقت الذي انحاز للفقراء بالقول والفعل، وفتح نوافذ الامل امامهم، انحازوا هم الي الاثرياء ولو كانوا فاسدين، واعتبروا الفقر عارا يجب التخلص منه، عبر التخلص من الفقراء انفسهم، باي وسيلة كانت ولو بالموت البطئ او في حوادث نتجت عن اهمالهم وشحهم في الانفاق العام واشياء اخرى.
وبينما قضى ناصر على الطبقية وسيطرة رأس المال على الحكم، اعادوا التصنيف الطبقي من جديد، للدرجة التى صار تكافوء الفرص في الوظائف العامة وهما كبيرا، والمناصب تتوارث، وجملة quot; غير لائق اجتماعيا quot; يرجم بها المجتهدون من ابناء الطبقة الافقر، ولو انتهي بهم الحال الى الانتحار احتجاجا، ثم ان الرأسمالين عادوا ليسيطروا على مؤسسات الدولة حتى التشريعية، ليخدموا على مصالحهم الخاصة، حتى لو على حساب المصلحة العامة ومستقبل هذا البلد.
وان كان ناصر سمح لكل فئات الشعب بالمشاركة في معركة التحرر والبناء وخلق مشروع قومي يلتف حوله الجميع تعززه روح ثورية محفزة، وبعد ثقافي تنويري، فماذا فعلوا هم غير تهميش الجميع واحتكار الثروة والسلطة، وجعلها في دائرة ضيقة يتوارثونها وحدهم، مع هامش ديمقراطي وهمي،لا يعني اي شئ، سوى التنفيس عن الغضب، لاستدامة الاوضاع القائمة وحماية مصالح النخبة المسيطرة، وسط مناخ من الاحتقان الطائفي وتصاعد للاصولية الدينية، علاوة على تدهور التعليم وانسداد الافق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتحول الحكومة من الدعم وضمان العدالة الاجتماعية الى السمسرة وجباية الضرائب على كل شئ، كما عصر المماليك المشهور بحقبة الاضمحلال الحضاري.
واذا كان ناصر وثورته قد صنع لمصر دورا ومكانة اقليميا ودوليا، ووقف بشرف وضمير ثوري مع كل حركات التحرر الوطني، وسعى للوحدة العربية بصدق ومواجهة خطر الامبريالية الغربية والصهيونية.. فماذا فعلوا هم غير تحجيم مكانة مصر وتقزيم دورها والوقوف في المعسكر الامريكي الاسرائيلي، ولو ضاعت العراق وتهددت وحدة السودان واليمن، وسعى الصهاينة لتصفية المقاومة والقضية الفلسطينية وارتكاب ابشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني الذي وضعه ناصر بين مقلتيه حتى رحيله.
ان استذكار الثورة ليس بالاغاني والشعارات في غير موضعها وسياقها التاريخي والمجتمعي، وانما بالفعل واحياء خياراتها وتوجهاتها المنحازة لجموع الشعب الراغبة في تحريرالبلاد من الاستغلال الداخلي والخارجي، وحماية استقلال القرار الوطني والعودة لدوائر الانتماء للمحيطين العربي والافريقي وتجمعات الجنوب بشكل عام، وليس الارتهان للتوجهات الامريكية والاسرائيلية.
فهل من يحكموا الآن قادرين على هذا الفعل المناهض لمصالحهم؟ وهل نستحق كشعب ثورة ناصر التى ضاعت او جرى اغتيالها، ونحن نجلس في مقاعد المتفرجين، وكأنها لا تعنيننا اوتجسد طموحاتنا نحو حياة انسانية كريمة؟
اخيرا، اود ان اؤكد ان الشعوب التى لا تدافع عن حريتها وحقوقها لا تستحق الحياة، و يحضرني هنا مقولة ماركس :quot; الانسان يصنع الظروف، بقدر ما تصنع الظروف الانسان quot;، وكذلك مقولة الفيسلوف الثوري برتراند اند راسل :quot; الشعوب التي لا تعرف الثورات او الحروب تموت quot;.
محمود عبد الرحيم
*كاتب صحفي مصري
Email:[email protected]
التعليقات