علي النجار من مالمو: لم يعد الفضاء المدني السويدي مغلقا على مفاعيل الثقافة الاسكندينافية بتفاصيلها المموهة بفضاءات غبشية، بل بات (في زمن اختلاط الثقافات المهاجرة) يكتظ بتفاصيل ثقافية أثنية (أوربية، أوسطية، افريقية، لاتينية، أو آسيوية) وان جاءت الهجرة متأخرة، فإنها ومع ذلك، شكلت قدراوامتحانا لقدرات اجتماعية استيعابية تجاوريه. وليست تجاوزيه إلا في حدود. مع ذلك فإنها تبقى ولآماد زمنية مرهونة بضوابط النظام الاجتماعي الاندماجي بسلطتيه السياسية والمجتمعية. إن لم تكن هذه الضوابط كليانية، فهي مرشحة لعدم تمحورها حول قطيعة مطلقة.
للسياسة الثقافية الاندماجية في بلد مثل (السويد) مسارب عديدة، وان كان معظمها مهنيا، فإنها لم تغفل الهاجس الثقافي كنشاط مكرس لأثنيات عديدة متعايشة في هذه الرقعة الجغرافية. وهي على قدر من الوضوح في سياسة دعم جمعيات المهاجرين الثقافية (بشكل عام). ومع ذلك ورغم اختلاط اللغات وتنوع الفعاليات. لا يمكن إغفال دور خطاب المؤسسة الثقافية المركزية من خلال عروض المسرح والسينما بشكل خاص. وان كان من دور للتشكيل فهو يبقى في حدود ضيقة. لكن مشروعنا الذي سوف ننوه عنه يبقى استثناءا، لكونه نتاج مؤسسة اندماجية (بيت الأحلام(*). فهذه المؤسسة الثقافية الرسمية التي تأسست منذ عدة سنوات في مدينة (مالمو) الجنوبية بشروط اندماجية في منطقة هي الأكثر اكتظاظا بالمهاجرين (روزنكورد) قدمت في مايس من العام الماضي عرضا اشتمل على بعض من المسالك المفتوحة لسياسة المفهوم الاندماجي السويدي.
بعدما لم تعد بناية منشأة ميناء هذه المدينة(الكوكومس(1) فاعلة نتيجة للتحولات السياسة الاقتصادية للمدينة. خضعت هذه البناية المعملية للسلطة الثقافية بشكل من الأشكال أحيانا. وتم احتواء فضاءاتها عروضا مسرحية مبتكرة موازية لفضائها المفتوح، والذي احتضن كذلك فعالية بيت الأحلام(لقينا الضائع).
( إن الواقع لاشئ
وانأ لا أرى الحياة تشع بالأبدية )
(لقينا الضائع) هذا العنوان ألغرائبي تحول إلى عمل خرافي متشعب المسالك. احتوى التشكيل، الأداء الجسدي والأكروبات، الفيديو، الصوت والصورة. وتقوده مسارب نصوص شعرية(هي الأخرى تجريبية معملية). وتحول الفضاء المفتوح إلى ممرات ودهاليز، صممت لتوائم التصور أو مقترحاته.
ما إن يفتح باب العرض حتى نفاجأ بشخصين أو أكثر أحيانا ينبثقون من العتمة وبإنارة تضخمية يتطاولون حتى يواجهوننا معلنين أن مهمتهم قيادتنا وعلينا الامتثال لأوامرهم، بعد ذلك يقودون عددا محددا منا في دهاليز العرض التي تتفتح ممراتها واحدا اثر آخر. لقد حجزت الإنارة المشغولة بفعالية مساحات العرض الهائلة والمتخفية بعضها عن البعض. وكان دليلنا الآخر أبيات شعر تتخلل عوازل الممرات.
( ببطء.. طلب.. رفاهية
رغبة أن تلتصق بنا وبأعماقنا)
ورشة بناية(بيت الأحلام) وفضاء العرض شكله عشراتالشباب بألعابهم التشكيلية التجميعية والإنشائية. أسرة تغطيها علامات وأشياء الحب وآثار الطفولة. أفرشة مكتظة بحمولاتها من أوراق الصحف والمجلات المستهلكة ونثار القطن الملون أو المعفر(ندوبا قابلة للعطب)، أشكال خشبية (فورمات) آدمية بهيكلية بدائية وبقلوب ملونة، أجساد متشكلة من ماسكات حبل الغسيل، خشب رمال إصباغ وحاويات ورسوم ابتكرها نشاط اجتماعي غير احترافي، حرفتها تكمن في طغيان الصورة التشكيلية لمدى محيط مكتظ بتفاصيلها، وبذوات فطمت على الإفصاح عن مشاعرها وخبايا نفوسها. شجاعة أدبية هي درسهم الأول الذي يهيئهم ذوات اجتماعية.
( انظر إلى فوق... والى الكون... والى نفسك
هذا ما يجبرني أن أكون في مجال رؤيتك)
مواجهين الفعالية الجسدية الإيقاعية لخمس شابات في الفضاء الثاني. اختزلت حركاتهن مراحل مرور أزمنة تحولاتهن الاغترابية لتنتهي بان تواجه كل منهن واحدا منا في فعل رصد ثابت تحول إلى منولوج كشف باطني مزدوج. لقد هيأ الفعل الإيقاعي والصمت المحدق للحظات تخاطرية مرت كالبرق مخلفة أثرا غائما.
ومن ممر الشعر أيضا إلى الفضاء الصوري(الفيديوي) وصدمة الواقع الذي أقحمنا فيه في احد شوارع المدينة العتيقة وبمحاورة تحاول القبض على عصب الهجرة والفعل الاندماجي اختلط فيها أداء الشخصية المهاجرة المستجوبة أو المؤدية وحامل الكامرة وماسك لاقطة الصوت ومجموعة الكادر وبلاط الشارع والمارة. واختلطت أيضا السحنات واللهجات، وانفتح الفضاء حتى البحر الذي يحد المدينة ويتعداها للجانب الأطلسي.
وختم الشعر هذه الرحلة:
( الآن وعندما وجدتك
سوف لا ادعك أبدا...؟)
إن كان الغرض من هذه الصناعة الفنية، في هذا المشروع مفاجئتنا بخبايا متاهته. فقد حقق غرضه. لكن أهدافه المرسومة مسبقا لم تبتعد عن حسابات القرار السياسي الثقافي العامة والتي واجهتنا في الفضاء الفيديوي الأخير. ولقد استطاع هذا المشروع أن يناور أو يحاور الفعل الفني بعض الشيء وصولا لتحقيق أغراض اجتماعية أخرى، وهذا الكشف يوضح ذلك:
1- كلفت ميزانية المشروع أكثر من مليون دولار أمريكي. وهو سخاء عرفت به السلطة الثقافية السويدية، وبشكل خاص لما يتفق وهذه السياسة.
2- عدد العاملين المنفذين المحترفين ثمانية عشر، ما عدى كادر الإدارة والعشرات من طلاب المدارس والشباب المستقطبين أو المتطوعين لتنفيذ الأعمال الفنية التشكيلية ورسم التصورات الممكنة لإخراج الأفكار المقترحة.
3-استغرق الأعداد للمشروع(عمليا) ستة أشهر، بما فيها جلسات المناقشة والإمساك بالخطوط العامة للأفكار المقترحة نظريا وعمليا(أدائيا) والتي من الممكن تنفيذها.
وكانت أيضا من أهدافه الغير معلنة(الغير ثقافية) توفير فرصة عمل للكوادر العاطلة.
وان كان هذا المشروع الفني يندرج ضمن مفهوم الفعل التشكيلي الاجتماعي. فقد سبقته العديد من المشاريع التي تقترب أو تبتعد نواياها العامة بعض الشيء من ذلك. مشاريع أشركت المتخلفين عقليا والمعاقين في منحى هو الآخر اندماجي. مشاريع موجهة للذات الإنسانية المهشمة أو المغتربة داخليا وخارجيا، في مسعى لاكتشاف الذات وتصالحها مع الآخر.


Kockums1-
www. drommarnahust. se (*)
بيت الأحلام : مؤسسة ثقافية اندماجية سويدية تأسست في مدينة مالمو منذ عدة أعوام بالتعاون مع الاتحاد الأوربي وبهدف إدماج الجاليات المهاجرة ثقافيا. وتصاعدت أنشطتها وتوسعت بناياتها عاما بعد عام. فبعد أن كانت تظم ثلاثة فنانين(تشكيلي، موسيقي ومسرحي) ما عدى الإدارة. أصبحت الآن تظم العديد من الكوادر الفنية والإدارية الاحترافية، وتقدم كل عام نشاط خاص بها، ومساهمة فنية في مهرجان مدينة مالمو السنوي. إضافة إلى استقطابها على مدار السنة الطلاب والشباب في استوديوهاتها الفنية المختلفة.