لمّا انسحبَ الجيشُ الأحمر من بودابست
لم يأخذْ معه ألوانَ النّهر؟
لم يأخذ معه الرّقصات الغجريّة؟
لم يأخذ معه رُقيات السّحْر، ولا
صفنات الشّعراء؟ لم يأخذْ معه
ريشَ طيورٍ نفضتْ عنها في لحظةِ عشقٍ
زمناً مبلولاً بمياه النّهر؟
كانَ الشاعرُ يعرفُ أنّ النهرَ الأزرق
يرسمُ في عينيه بِرَكاً زرقاء؟
كانَ الشاعرُ يعرفُ أنّ الريشَ ثمينٌ
في موسم بردٍ وشتاء؟
ولذلك راح يُخبّئ بعضَ الرّيشِ
وبعض الكلمات في ماء الدّانوب؟

لمّا انسحبَ الجيشُ الأحمر من بودابست،
نفشَ الشاعرُ ريشَ الطّيرِ المبلول على الأكتافِ
وطار يحلّق في سُحبٍ عُصرتْ
في الشّفتين؟ وحين رأيْتُه،
في سوقِ الشِعر، بروتردام، كان يبيعُ
اللُّحفَ المصنوعةَ من ريشِ النّهر الرّابخ
في عينيه، وحين ارتحلَ العصفور وغاب،
ذابت كلماتٌ في عينيه؟ وأنا لم أدرِ
أنّ كلامَ النّهر يسيلُ من مُقَلِ الشعراء؟
فأنا قد جئتُ من الصّحراء العربيّة
أعرف أنّ البحرَ رمالٌ صفراء
والموجَ كثيب يتعرّى كلّ مساء؟
سفنُ الشعراء جِمالٌ، واللّيل دروب
عبّدها الشاعرُ في رحلته الأبديّة
بحثاً عَنْ مطرٍ وفتاتِ كلام؟

وها أنذا آتي إلى بلدٍ آخر،
لأبدّلَ كلمات الصحراء بحكايا النّهر،
أحملُ مزهواً في الكتفينِ
آلةُ تصويرٍ سحريّة؟
لا أعرفُ غير الضّغطِ على زرٍّ
قد ثُبّتَ فيها؟
حتّى الفيلمُ ببطنِ الكاميرا
يلتفُّ لوحده؟
لا أعرفُ إلاّ الدّربَ إلى حانوت التّحميض؟

أقسمُ أنّي لَمْ أصبغْ عينيكَ بلونٍ من عندي؟
ما ذنبي أنّ العينَ لديكَ اتّشحتْ بالحُمْرةِ؟
هل يُمكنُ أنّ الشِعر تلظّى في عينيك فأضحى جمرة؟
هلْ يُمكنُ أنّ الجيشَ الأحمرَ يحتلّ الكاميرا
اليابانيّة سراً؟ أم أنّ الخمر الأفريقيّ الأحمر
أخفَتْهُ عيناكَ، فلا يظهر
إلاّ في ورق الـ کكوداك؟
أمْ أنّي قد جئتُ من الصّحراء العربيّة
أحملُ في عينيّ عدساتٍ مصهورة
من وهجِ الرّمل؟
أم أنّ القلبَ بروتردام
لم يعرفْ كيفَ يُخبّئُ لونَه
في كاميرا يابانيّة؟