حميد عقبي من باريس: تزخر الكثير من المدن الفرنسية والغربية بشكل عام بوجود عشرات المدارس المخصصة للرقص الشرقي، لا تخلو مدينة اوروبية من وجود محل لبيع أزياء الرقص الشرقي وبعض الاكسسوارات الخاصة بهذا الفن، وفي شهر يونيو ويوليو تقام عشرات بل مئات الحفلات فكل مدرسة تقيم نهاية العام حفلة راقصة لعرض ابداعاتها وتقريبا كل مدرسة تضم ما لا يقل عن خمسين طالبة بأعمار متفاوتة، فالصغار والكبار يقومون بالتسجيل بهذه المدارس مقابل رسوم رمزية وفي اغلب الاحيان تجد هذه المدارس دعم من البلدية او بعض الهيئات الثقافية كون الرقص الشرقي هنا فن راقي ورياضة محببة ونافذة للتعرف على فنون الشرق وسحره. الرقص الشرقي اذن ثقافة وفن ورياضة ة هناك اختلاف كبير بين الرقص الشرقي الذي يجذب الالف من الفتيات بالغرب وبين رقص الكبارية، بعض الكباريهات في العواصم الاوروبية يوجد بها برامج وراقصات واسلوبهم في الرقص يختلف تماما عن ما يتم تقديمه في المدارس والحفلات والمهرجانات الفنية باعتبار ان ما تقدمه المدارس والجمعيات فن راقي وتعلمه وممارسته ليس للاكتساب او العمل في الكباريهات والملاهي الليلية ولا يوجد اي حرج من تعلم الرقص بل الافتخار بتعلمه.
ربطتني علاقة صداقة وثيقة بالراقصة كاهينة خالدي واشتركت معي في العمل بافلامي quot;ستيل لايف quot; وفيلم quot; الرتاج المبهورquot; وخلال هذه الفترة تمكنت بالغوص في هذا العالم المدهش وتربطني معرفة وصداقة باكثر من راقصة وكثيرا ما احضر بعض الحفلات والمهرجانات ونجلس ونتحاور في مسائل فني بخصوص هذا الفن، فمثلا كاهينة خالدي وهي فرنسية من اصول جزائرية تعشق الرقص لحد الجنون ولا تتصور انها ستتوقف عن الرقص ومنذ فترة انقطعت تواصلنا وقد سافرت الى الهند لتعلم الرقص ولا ادري هل اكملت رحلتها وعادت الى فرنسا ام لا.
في عالمنا العربي النظرة سلبية تجاه الراقصة وممارسة المهنة مقترن بالدعارة والعهر، وكثيرة هي الافلام العربية التي تصور الراقصة بانها عاهرة واغلب الافلام العربية تصور بيئة الرقص وتختار مكان (كبارية او غرزة حشيش) ويرتبط الرقص بالحشيش والمجون والعراك او الافراح الشعبية بالحواري او الموالد، قليلة جدا هي الافلام التي حاولت التمعن بهذا الفن وتقديم الراقصة في صورة ايجابية ولعل هذا السبب جعل الافلام التي تحوي رقص شرقي غير منتشرة هنا بشكل كبير عكس شهرة الافلام الهندية والتي نحس فيها بان الرقص جزء من الحياة والطقوس الدينية اي ان هناك هالة من الروحانية والقداسة لهذا الفن وكذا ارتباط الرقص اي الجسد الانساني بالطبيعة والبيئة والناس، فالرقصات في الافلام الهندية جماعية يتم تصويرها بشكل جميل وفني وتحمل دلالات متعددة في لحظات السعادة والالم.
في فيلمي quot;ستيل لايفquot; حاولت الاشتغال على الجسد الانثوي من خلال رقصات نفذتها الصديقة كاهينة وقمت بتصوير مشاهد الرقص قرب البحر وحاولت ربط الطبيعة والمكان المفتوح بالجسد الانساني اي الراقصة وبمكان مغلق وجسد اخر هو جسد الشاعر الذي يشعر بالضيق والاضطراب وفي فيلم quot;الرتاج المبهورquot; حاولت ربط الجسد الراقص الانثوي بالصحراء لكن للاسف الشاعر عبد العزيز البابطين الداعم للفيلم رفض مشاهد الرقص واضطررت لمسحها في النسخة النهائية وبعدها ندمت كثيرا.
حاليا اشتغل على فيلم رائي طويل وهناك مشاهد عديدة بها رقصات وسوف نحاول الاشتغال على قداسة الجسد وخلق دلالات ميتافيزيقية من خلال الراقص والاجواء الطبيعية التي تدور به الرقصات وسوف احاول من خلال هذا العمل عكس ما يحتويه هذا الفن من روح وسحر وجمال.
من المدهش ان فن الرقص هنا يجذب فئات على مستوى عالي من الثقافة، وقد تعرفت ذات مرة على استاذة جامعية فرنسية تمارس الرقص كهواية وتدير مدرسة لتعليمه، من خلال حواري مع بعض الراقصات استنتجت ان نظرتهم وعشقهم للرقص الشرقي ياتي من ايمانهم بان هذا الفن فن روحي وانساني وبعض الراقصات يحرصن على لبس ملابس تتسم بالحشمة مثلا عدم اظهار (الفخذ والبطن) فالرقص لا يعني التعري الكامل وخصوصا اذا كان امام جمهور من الرجال.
اطلعت على حالة ملفته للانتباه وهي فتاة تمارس الرقص الشرقي وتقضي وقت طويل في التدريب وسماع الاغاني وابتكار رقصات وعلمت بعدها انها تعرضت في حياتها لمشاكل عديدة مع الرجال وذاقت الكثير من الالم بسبب قسوة الرجال ولذلك نذرت نفسها لهذا الفن وهي تصرف كل وقتها في الرقص كي تنسى هذا الالم والتجارب المريرة مع الرجال، اي انه هنا محاولة للبقاء والحياة وطريق للسعادة بعيدا عن القسوة والالم التي قد تكون نتاج علاقات حب فاشلة وهذه الفتاة اعترفت لي بانها لولا ممارستها هذا الفن وتلذذها به لكانت انتحرت بسبب هول وفداحة ما لاقته من عنف الرجال.
يتحول الرقص الشرقي من مجرد هواية الى نمط واسلوب للحياة ويتحول لنافذة للتوغل بثقافة الشرق وقراءة تاريخة والاحتكاك به، الكثيرات ممن يمارسن الرقص الشرقي يحرصن على تزيين بيوتهن بديكورات تحمل لمسات شرقية بل ويصبح الرقص جزء من الحياة وتصبح العادات والاكلات الشرقية جزء من الشخصية وقد يدفع حب الرقص الشرقي لتعلم اللغة العربية والسفر الى عالم الشرق لاكتشاف سحره وجماله وثقافتها والارتباط برجل من الشرق.
يمكننا القول ان الرقص الشرقي في بلاد الغرب بشكل عام يعتبر منفذ ووسيلة حضارية لمعرفة الشرق والكثير من محبي هذا الفن يكون لديهم ميولات للشرق والبعض ينخرط في جمعيات ثقافية وفنية واخرى ضد العنصرية وهي امور ايجابية جيدة، لكن للاسف لا توجد جمعيات عربية كثيرة لدعم هذا المسار ولا تهتم كثيرا المراكز الثقافية العربية الرسمية بهذا الفن رغم اهميته في دعم التواصل والحوار الحضاري بين الشرق والغرب ولا اعتقد انه من العيب استغلال هذا الفن بل ارى من العيب ان نهمل مثل هذه الفرص والوسائل ويمكننا ان نلاحظ ان حفلات موسيقية لفرق غربية تاتي الى الشرق يتم دعمها بشكل مبالغ فيه ولكن ان ندعم فن وثقافة شرقية موجودة وحية فهذا مازال في غير اجندة المؤسسات الثقافية العربية.
الكثير من الجمعيات الفنية والثقافية بفرنسا والغرب بشكل عام تعمل في ظروف سيئة بسب قلة الموارد والدعم ولا تساهم السفارات العربية والملحقيات الثقافية باي دعم رمزي مما يزرع نوع من الاحباط لدى هذه الجمعيات ويقلص من نشاطها وتاثيرها، في الوقت ذاته تصرف بعض السفارات مبالغ خيالية في حفلات رسمية لا تاثير لها وهذا يدل على خلل كبير في مفهومنا للثقافة والفن والتاثير الذي يمكن حدوثه باستخدام هذه الوسائل وكمثال بسيط مركز ثقافي وحضاري رائع وضخم مثل (معهد العالم العربي) بباريس يشكوى من قلة الدعم العربي وعدم التزام الدول العربية بدفع التزماتها في التنمية الثقافية والفنية بعاصمة النور والثقافة ورغم وجود هذا المعلم بوسط باريس اي مكان نموذجي الا ان المشاكل ومنذ سنوات تعصف به ولا حياة لمن تنادي.
بعض الافلام العربية ارتكبت اخطاء فادحة باظهار صورة الرقص الشرقي جزء من العهر والدعارة وجزء من من حياة طبقة اجتماعية منحظة وسافلة ومجتمع خارج عن القانون والاخلاق، ومازالت العديد من الافلام التي تنتج حاليا تمارس نفس الاسلوب وتكرر نفس الصورة بشكل ساذج وهذا الاجراء اساءة لجزء من ثقافتنا، والى اليوم لم تعترف اي جامعة عربية او اي اكاديمية فنية باعتبار ان الرقص الشرقي فن انساني يجب ان يعاد له الاعتبار بتخصيص اقسام خاصة لدراسته وتخصيص جزء من الابحاث الاكاديمية لتناوله بشكل علمي وفني اكاديمي.
في الكثير من الدول الاوروبية توجد ادارة عامة للرقص بوزارات الثقافة باعتباره جزء من التراث والموروث الحضاري واعتقد ان منظمة اليونسكو ايضا اعترفت بالرقص كجزء من الفنون والحضارة الانسانية ولديها قسم يهتم بهذا الموضوع، لكننا في العالم العربي بشكل عام مازلت لدينا نظرة دونية لفن الرقص بشكل عام ولا توجد قوانين وتشريعات تعترف به ولا مؤسسات تهتم به ورغم وجود الاف القنوات العربية الفضائية لا يوجد الى الان اي قناة مختصة بفن الرقص بكل انواعه وهذا نقص معيب ومخجل.
ما يتم تقديمه اليوم في الاغاني المصورة الفيديو كليب لرقصات وباستخدام موديلات عارية لغرض جذب المشاهد هو ايضا نوع من التشوية لروعة فن الرقص الشرقي وروعته وطمس للجانب الروحي والانساني لهذا الفن.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات