رحل رفيق الكلمة، عاشق البصرة، هجّاء المنفى، وأخو الطيبة والتواضع الجم: مهدي محمد علي. من يلتقِ بمهدي مرة واحدة يشعر حالا بإلفة نادرة يفتقر إليها الكثيرون في هذه الأوقات.منْ يحاوره يحس بوجود محاورينِ اثنين أمامه: شخص تشترك وإياه بهموم الإنسان والإبداع والتسامح، وآخر يتطلع إلى حلم بعيد طوباوي الملامح اسمه العراق.
التقيت به آخر مرة في مهرجان المدى الثقافي الثالث الذي انعقد في دمشق أواخر مارس 2002، كان من المفترض أن يساهم في أمسية شعرية مشتركة، لكنني لستُ متأكدا: هل قرأ أم لا. قدم من حلب التي أصبحت مستقره ومنفاه وبصرته quot;المنسيةquot;.
كان كث اللحية نحيل الجسد، غائر العينين، حتى أنني قلت له ملاطفا: أيها البصري الأصيل، أراك متنكرا بهذا البرقع ذي الخطوط البيضاء. قبّلني، ووضع يده على كتفي اليمنى وقال: لقد حلبتني، يا هاتف، حلبُ ما وهبتني إياه البصرة، لكنني جهدتُ في الحفاظ على اللبّ!
كنا نتراسل حينما كان في ليبيا التي لم ينعم فيها بالسكينة ولا براحة البال. ربما بسبب مرض نضال(زوجته) ومتاعبه الصحية كذلك وعسر حاله وخوفه من المجهول. ترك quot;الجماهيرية العظمىquot; وتوجه إلى دمشقَ وبعد فترة انتقل إلى حلب ومن هناك واصل تحريرَ القسم الثقافي في مجلة الثقافة الجديدة. كان عمله مضنيا ولعل أحد أسبابه هو أنه لا يستعمل الكومبيوتر! بحيث يذكرنا في هذا المجال بالمرحوم هادي العلوي وآخرين كثيرين، يفضلون أن تكون العلاقة بين القلم والورق مباشرة عبر الأصابع. لقد تعودوا على التشبث بالقلم في مرحلة يستحوذ عليها العالم الافتراضي.
بعد سقوط النظام في 2003 عاد إلى البصرة حالما بترتيب أمر عودته إلى الوطن الذي غناه ووهبه الشطر الأكبر من حياته، لكنه سرعان ما عاد أدراجه إلى الشام كسير الجناح، والخيبة تعصر روحه وتجعل حلم العودة مشروعا مؤجلا أو عملا طائشا لأن مدينته مدمرة على كافة الأصعدة والمستويات. quot;لم يعدْ لي حاليا مكان فيها أنا العاشق، ولا أريد لواقعها أن يدمر ما ترسب في الذاكرة والمخيلة من جمال يخصها تعبت واجتهدت في تكريسهquot;، هكذا قال في وقتها لصديقنا المشترك وابن مدينته المرحوم طارق عباس. تراسلنا عن بعد، وأحيانا بواسطة أصدقاء مشتركين. قد تكون البصرة أثرت على روحية وفكر ومخيلة غالبية شعرائها وكتابها أكثر من أية مدينة عراقية أخرى. يقف مهدي في طليعة من حملها في كيانه روحان واقعا، تاريخا وذكريات. لقد لاحقته أنّى رحل وكتب، فتشبث بها أكثر بعد رحيله منها. لم يكنْ طارئا على بصرته أبدا لأنه أحد سكانها الأصليين.
منْ يلتصق بوطنه حتى النخاع لا يمكنه الرأفة بالمنفى ولا الوثوق ببعض فضائله ومغرياته وهي شحيحة على أية حال.
كان مهدي الشاعر يكتب بمرارة ومقتٍ لكل ما يمت بصلة من قريب أو بعيد لعسكرة البلاد وجرها إلى حتفها. كنا منفي السبعينيات والثمانينيات وحتى بعض المتأخرين نشترك في هذه الرؤية الرافضة لمشروع القتل المنظم والتدمير الممنهج لبلاد اضطررنا لمغادرتها. كان العراق يلاحقنا جميعا مثل ظلنا، مثل شمسه الساطعة، راسما مَجْرَيَيْنِ في جسد كل منا شبيهين برافديه.
حينما أراد المقارنة بين وطن الموت والحروب والويلات وبين المنفى، كانت النتيجة هي التعادل بدون أهداف! صحيح أن البلد العربي قد يخفف من غلواء المنفى، لكنه يصير وبالا حينما يتقاطع مع طموحات الغريب ونزعته إلى الحرية.
quot;ليس وطنا/ ذلك البعيدُ/ المدججُ بالسلاح/والرغبات الشريرة/ذلك الساري في نومه/يجرُّ أمّةً من الناس/ نحو الهلاك!(...) ليس وطنا هذا المنفى/هذا القريب/الخالي من حفيف ستائري/واستدارة مرآتي/ ومداعبة أطفال الجيرانquot;(من قصيدة: صورة مقلوبة، 1982).

كان شعر مهدي صافيا عميقا بسيطا بلا لف ولا دوران ولا رتوش، كما لو أنه انعكاس لطبيعته السمحاء وسخاء رقته، ولعله أقرب من النهج الشعري لسعدي يوسف.
هناك شعراء وكتاب وفنانون ومثقفون يكتبون وكأنهم يضربون على طبول جاهزة، بينما كان مهدي يكتب وكأنه عازف بيانو. بتفانٍ، بعيدا عن الضجيج الممقوت، بلا ادعاءات فارغة، بلا نرجسية، بلا شغف في تجيير تعب الآخرين باسمه (رغم الفرص المتاحة له وقتئذ)، هذه الصفات الذميمة التي دمرت كثيرا من مثقفينا وشوهت فصولا هامة في تاريخنا الأدبي والثقافي العراقي، والشعري على وجه الخصوص، بحيث صار لزاما علينا إعادة كتابته من جديد. لم تتعرض حركة شعرية عربية للتزييف بقدر ما تعرضت له الحركة الشعرية العراقية المعاصرة.
نرثي الشاعر والإنسان والوطني الغيور مهدي محمد علي(1945-2011) وكأننا نرثي أنفسنا وطموحاتنا وأحلامنا التي بقيت في أدراج ليل داجٍ قد وضع الغيابُ قفلها في جيب مخروم.

بيروت/وارشو، 2-3 كانون الأول/ديسمبر 2011


مختارات من أشعاره:

احتمالات الرثاء

ليس ثمةَ نجمٌ يرتعش في السماء
أهلي بعيدون
وللتوّ نظرتُ إلى النبات
والزهور النائمة
ودرتُ في غرفتي دورتين
وجلستُ متراخيا على السرير

ليس ثمةَ نجمٌ يرتعشُ في السماء
وأنا أبحث عن مرآة!
ترى هل تأتي الرصاصةُ مثل الجمرة
أم كالجليد؟!
كلُّ شيء له صرخةٌ مكتومةٌ
وأنا أبحث عن مرآة
مرآةٍ تراني
وتقرأ الأخبار

الموتُ قريبٌ
والنجمُ لم يعدْ مرتعشا
وقلبي يُطأطئ صامتا
يبحث عن مرآة

الشيخوخةُ
تتقدمُ بسكون
والسلالمُ تختلط ببعضها
والأمنياتُ تتحولُ إلى أشباح
والموتُ يبدو سهلا
مثل تفاحة عادية
ومباهجُ العالم
كرنفالاتٌ خارج الأشياء

لم يعدْ هنالك شيء ممكنٌ
والمستحيلُ..
فرّ هاربا من اللا شيء

وصارَ الوجود والعدم
وجهين لعملةٍ واحدة
والخوف..
فقدَ اسْمَهُ
وفضحَ الموتَ الذي بدا سهلا
مثل تفاحةٍ عادية
وأنا أدور في الغرفات الخالية
غافلا عن كلّ الأعمال
سوى رعاية النبات
وتأمّلِ الأزهار النائمة
أدورُ هنا وهناك
وأنسى
أدورُ هنا وهناك
وأنا أبحثُ عن مرآة
مرآةٍ تراني
وتقرأ الأخبار
لم تعدِ الكتبُ تعنيني
قدْرَ ما يعنيني كتابٌ وحيد
خبّأتُ فيه الوردة

هل تملك مرآةً صغيرة؟
دعْها- إذن- تنظرْ إليك
فلطالما نظرتَ فيها

لتنحصرْ أحلامكَ في ديمومة الأشياء الغائبة
فكّرْ بجنون العالم
وبالموجةِ التي جاءتْ من طروادة
لتنفجرَ على صخرتكَ في بيروت:
نافورةَ دمٍ
وشظايا مرآة
ابحثْ عن مرآة
ولو كانتْ مهشمة
وماذا يعنيك من أمرها؟!
إنها هي التي ستنظر إليك
إذ يكفيكَ ما تأملتَ في المرايا
حياةً بأكملها!

ماذا ينقصُ القرنَ العشرين؟
ماذا ينقصُ هذه البلاد في القرن العشرين؟
-نافورةُ دمٍ
وشظايا مرآة!

لا تقلْ ينقصنا وردةٌ
وحمامةٌ بيضاء
خبزٌ وجرةُ ماء
وبيتٌ خشبيٌّ في غابة الطيور
فذلك ما اتفقنا عليه
منذ هبطنا من الأشجار

لا تقلْ: ولكننا نريد ذلك حتى الموت
فذلك ما اتفقنا عليه
وها هو الموتُ يتقدم
والموجةُ القادمة من طروادة
شاءت لها الأقدارُ
أنْ تتفجرَ على صخرتك في بيروت:
نافورةَ دمٍ
وشظايا مرآة

ولكننا لن نقول:
وليأتِ بعدنا الطوفانُ
فلربما عادتِ الموجةُ ثانيةً
إلى طروادة
وهدَأ النوءُ
ولربما عادت المرآةُ صافيةً
وارتعشتِ النجومُ بجذلٍ
واستعدنا كلَّ الأعمال
ورعينا النباتَ
وتأملنا الزهورَ النائمةَ كالأطفال
وعثرنا على الكتاب الذي خبّأنا فيه الوردة
1982

الجندي

أيها الجنديّ
أسودَ كنتَ أم أبيض
على لوح الشطرنج
أم على أرض المعركة
فإنّ مصيرَك الموت!

أسودَ كنتَ أم أبيض
فليس لك إلا أنْ تتقدم
لتقتلَ (العدو)
أو ليقتلكَ (العدو)
الحكامُ لا يموتون إلا قليلا
أما أنتَ
فدائما تموتُ
سواءٌ أكنتَ أسودَ أم أبيض
على لوح الشطرنج
أم على أرض المعركة
على دكّةِ الجوع
أم على سرير المرض!
1982

صورة مقلوبة

ليس وطنا
ذلك البعيدُ
المدججُ بالسلاح
والرغباتِ الشريرة
ذلك الساري في نومه
يجرُّ أمّةً من الناس
نحو الهلاك!

ليس وطنا
ذلك البعيد
الذي لا أدري كيف سأبحث عنه
عما أخسره هذه الأيام
أتحتَ أنقاض الذكريات
أم تحت أنقاض الحرب؟!

ليس وطنا
ذلك الزاعقُ في برية الموت
بينما لا أريد شيئا
سوى أنْ أسمعَ حفيفَ ستائري
وأنْ ألمسَ استدارةَ مرآتي
وأنْ أداعبَ أطفالَ الجيران

ليس وطنا هذا المنفى
هذا القريبُ
الخالي من حفيف ستائري
واستدارة مرآتي
ومداعبة أطفال الجيران!
1982


الرّحاب*

قلتِ لي: كيف لو أفلحوا؟!
منْ سيضربُ لي خيمةً عند أبوابهم للمناحةِ
لو افلحوا؟
غير أنكِ لم تسمعي عند بابي
ضجةَ الروح
تحت اصفرار المساء
والخريف الذي ظلّ في غرفتي
ساكنا كالغبار
الخريف الذي ظلّ يتبعني في المنافي
أنتِ لم تعرفي طائرا
يختفي في زوايا المقاهي
في المحطات والحافلات
أو يُقَضّي نهاراته في الغرف
طائرا يتفنن في نتفِ ريش الجناح
طائرا يحتمي بالقوافي
وظلام النهار

حداء

خبّأوا ضوءهم عند منتصف الليل
سارتْ على هونها إبلٌ
كان حشدُ النجوم
زينةً في سماء البراري
فليكنْ بعضُ هذي النجوم
quot;رجوماquot;
وليكنْ بعضُ هذي النجوم الدليل
خوَّضوا في مياه السيول
وضياء القمر
خَوَّضوا..
واستمَرَّ السفر!

* * *

أنتِ لم تلمحي ناقتي
إذْ تحيدُ عن النجم
غامضةَ السير
لم تأخذيها إلى السيل مثلي
ولم تُبصري عينها وهي تغرق بالدمع
أو عنقها تشرئبُّ
وأضلاعها تستطيل!

حداء

قيل: هذي(الرحاب)
ثم سرنا نهارا بأكمله
وسألنا..
قيل: هذي(الرحاب)
وقطعنا من الليلِ أكثَرَهُ
لمْ نسلْ..
غيرَ أنّ الدليل
قال: لمّا نزَلْ في (الرحاب)!

* * *
أنتِ لم تعرفي
كيف صَيّرني البعدُ شاهدةً
تتحركُ في الرمل
كيف أفقتُ على نخلةٍ في القفار
جذعُها كان محتشدا بالفسائل خضراءَ
والرّكبُ يغتسلون من السيل غيرَ بعيد
وبعضٌ يُؤجّجُ نارَ الغضا
والغروبُ انحنى في (الرحاب)
أنتِ..؟!
أم نخلةٌ تلكَ
أم سدرةُ المنتهى؟
والمدى..
أ هو الرملُ؟
أم لمعةُ الآلِ
أم غابةٌ للغضا
أم خيامُ البُداة؟
1982
* الرحاب: أرض واسعةٌ في بادية السماوة خالية من الماء والشجر.

فصلٌ في الجحيم
إلى روح رامبو


خانَني المتنبّي
وبودلير

ضَيّعني طرفة
مثلما ضاعَ

أوجعني ذو النواساتُ
خلّ(جنان) التي لا تراه
وخانتني الفلسفة

فأخفيتُ تحتَ جناحي تصاويرَهم
عن عيون جميع العيون التي في جميع الحدود
-ولكنهم- معشر الشعراء
لم يُراعوا الحدود
فضَيّعني بعضُهم
خانني بعضُهم
ثم أوجعني خيرُهم
مثلما أوجعتني الليالي
فحيّرني شأنُهم
فسعيتُ بهم
ثم أوليتُ ndash;في شأن روحي- دلوَهُمُو
وتنازلتُ مثلهمو عن مثالِهمو
... وانحنيتُ
...بكيتُ

فسعيتُ
... كتبتُ
مَحَوْتُ!

بصرة حلب
فجر 10/01/2000

حالتنا..حالة

أحتاجُ إلى عشرةِ أمثالي
كيْ أتحمّلَ حالي،
في العشق
وفي سعي العيشِ:
الخبز
المازوت
الغاز
خطى أهلي
والناس
وجاري الجاهل
أحتاجُ إلى عشرةِ مهديينَ سواي
لعرقلةِ الدجّالِ الأعورِ في هذه الأيام.

بصرة حلب
15/03/1997

اختارها مما توفر لديه: هاتف جنابي