علي النجار: تقيم في مدينة (مالمو) السويدية جالية عراقية كبيرة. منهم من لجأ إليها منذ الثمانينات من القرن الماضي عبر ممرات دروب هجراتهم القصية. معظمهم واصل مشوار حياته غير بعيد عن مجتمع حاضنه السويدي الجديد. لقد استطاعوا تطوير أدواتهم المعرفية والعملية من اجل أن يضمنوا لهم موقع قدم في محيط السوق السويدي الحاضن، وليس غريبا ان نجد من بينهم العديد من الكفاءات العلمية فاغلبهم كانوا من المثقفين المعارضين في ذلك الزمن، كما في العديد من مدن العالم الأخرى في ذلك الوقت، والتي تحولت أخيرا إلى منافي بحجم مساحة لأبأس بها من مساحة بلدي. كذلك وصل إلى هذه المدينة (مدينتي) أيضا العديد من الكفاءات العراقية الأخرى الهاربة من حمام الدم العراقي المتأخر. بالتأكيد ليس كل العراقيين هنا استطاعوا أن يواصلوا مشوار تحصيلهم الدراسي حالهم حال بقية المهاجرين الآخرين الذين تكتظ بهم هذه المدينة الكوزموبولوتية. تجد هنا أيضا البقالين والحلاقين وميكانيكي السيارات والمشتغلين بمهن أخرى، مثلما تجد الطبيب والمضمد والصيدلي وهناك أيضا من الكفاءات التي لم تجد لها موقع قدم، بسبب من لجوئهم بأعمار متقدمة وصعوبة مواصلة إعادة أو تجديد معلوماتهم أو تعلمهم اللغة الجديدة وإتقانها. والتي هي من أهم شروط الاندماج في مجالات العمل
مدينة مالمو هي ثالث مدينة من حيث الحجم في السويد، وإذا ما قورنت بمدينة مثل لندن، فربما تكون اصغر من إحدى ضواحيها. والكل يعرف حجم الكفاءات العراقية ووزنها التي تقطن هذه المدينة العالمية. قبل ثلاثة
أعوام افتقدنا حلاق من مدينتي مالمو. ثم فاجئنا حضوره مرة أخرى بهيئة معتبرة. لقد تنعمت سحنته، تبدلت هيئة ملابسه، تغيرت مشيته. ويبدو من حاله انه ورث ثروة جديدة ولا حسد. لكن بعد الترحاب والسؤال،اتضح بأنه اشتغل عقيد عسكري في المنطقة الخضراء من بغداد لسنتين لكننا لم نعرف بأنه كان عسكريا، ويبدو انه هو
الآخر لا بعرف. لقد وجد نفسه فجأة عقيدا في الجيش العراقي وانيطت به حراسة في المنطقة الخضراء. وكأن المنطقة الخضراء هي مشروع من المشاريع التطبيقية لأحد أحزاب الخضر التطوعية. لقد ضمن صاحبنا الحلاق العقيد راتبه التقاعدي من الحكومة الخضراء وضمن رفاهيته التي هي جزء من الرفاهية العراقية الجديدة بالوقت الذي رجع فيه العديد من أصحاب الكفاءات الذين أغرتهم الدعوات والوعود خالي الوفاض وقبل أن تنتهي حتى إجازاتهم او الفترة الزمنية التي ضنوا بأنها كافية لتقديم وثائق ومستمسكات تعينهم.
ان كان للفساد الحكومي من درجات، أنا لا ادري بأية درجة أو درك أضع هدا السلوك الفاسد، فصاحبنا الحلاق لم يكن يعرف استعمال السلاح ولم يخدم العسكرية، وكل مؤهلاته انه قريب لأحد متنفذي السلطة الشرعية الجديدة والقرابة بهذا الشكل فقدت سلطتها الدنيوية والدينية التي يراد لها السيادة الشعبية الآن إلا بتفويض من العرف العشائري الذي يسود في حالة الفراغ الدستوري والأمني، وهل وصلنا فعلا لذلك مع كل هذا الجهد البرلماني المليوني.
أنا الآن في الواحد والسبعين من عمري، ليست كل أوقاتي سعيدة، وليست كل أعضاء جسدي سليمة، ومشكلتي هي في كيف الحفاظ على سلامة عقلي وسط كل هذه الفوضى العراقية. فهل أنا خسرت كل أحلامي التي استوطنتي منذ الصغر. ينصحني الدكتور السويدي المشرف على حالتي الصحية بان ازور بلدي وهو الآن تغير بعد سقوط الدكتاتورية. لكني أوقعته في حيرة من أمره عندما أخبرته بكيف لي أن ارجع إلى بلد لا تعترف سلطته المدنية بالفن الا بحدود إيديولوجيتها الدينية الجديدة. وأنا الذي اعتقد باني من فئة الفنانين. ماذا فعلنا إذا، هل بدلنا الإيديولوجية القومية بالدينية، بل وحتى بصيغتها الصغرى، المذهبية. لكني أيضا ومن خلال متابعتي لأنشطة الفنانين التشكيلين (الداخل) وجدت توجها عند العديد من الفنانين لمسايرة التغيير السلطوي الجديد. وخاصة من له صلة بالمؤسسات التدريسية الفنية. لقد تغيرت أسماء الأبطال الدنيويين بالسماويين. والخطاب الفني بقي نفسه. فهل بتنا نبحث عن جيل فني جديد يترك خلف ظهره كل تبعات الإيديولوجيات، وينتبه لما يحدث في العالم من تغييرات حدثت في واقع الصورة الفنية التشكيلية الجمالية والثقافية الجديدة، الشعبية والمحرضة، الخيالية والواقعية الجديدة وطرق ومسالك التعبير الجديدة ووسائلها
لم يكن جواد سليم إلا جزء فاعل من محيط زمنه. ولم تكن بغداد في بداية نضج مشواره كما هي الآن، لقد كانت لها عاداتها وسلوكيات محلاتها المناطقية. واقتصادياتها الحرفية وما يتبعها من ألفة افياء وزوايا أزقتها. هذا ما تخبرنا به رسوم ومنحوتات جواد سليم رغم كل تحولاتها الأسلوبية. وان كان الإرث الأسطوري تشكل عبر عصورنا سلوكا وصورا باهرة سكنت ذواتنا الثقافية فعلينا أيضا ان ننتبه للحراك الفني والثقافي لزمننا الحالي ووسائله الاتصالاتية الاقتحامية ولا نتعامل معها كمجرد فرجة بهلوانية، لقد قرأ جواد جيدا زمنه بموازاة تقنياته الفنية وتصوراته الثقافية وتحول إلى علامة. لكن لزمننا أيضا علاماته الخاصة التي اقتحمت مساحة الحاضر وفككت الأسطورة. وعلينا يقع ابتكار أساطيرنا الزمنية الجديدة بمحاذاة أساطير الآخرين المعاصرة لا السلفية. لقد استغرقنا زمنا طويلا ونحن ننعم ببركات الإرث والفولكلور وأشبعناه تفكيكا وترقيعا وتلميعا ونحن نضن بأننا اكتشفنا أسلبتنا المغرقة في خصوصيتها بدون الانتباه إلا ما يخترقها من مخلفات الآخرين الفنية التي ضيعت الأصل والمصدر. فلا الإرث كشف عن أصله ولا التأثير المقتحم أبان عن فاعليته. وما كانت أعمالنا إلا هامشا على سطر إعمالهم.
ما حدث من لغط وشكوك مدونه عن التلميح لجواد سليم بان يضع نحتا لعبد الكريم قاسم في نصب الحرية، لم يكن عبثا. فان لم نجد البطل فإننا نصنعه تعويضا عن بطولاتنا المفقودة. ما بالنا وتاريخنا كله أبطال ما سلف منهم وما حضر. وهل بإمكاننا تجاوز بطولاتنا لتستقيم أمورنا. العلم والتقنية المعاصرة تقول ذلك، فهل نستوعب الأمر أم نفضل ان نستمني بماضينا في زمن لم يبقي للبطولة من شيء وتحولت إلى أزرار (بورد) الكومبيوتر وعمال تقنياته المجهولين. وهل ستبقى بمعنى من المعاني فنوننا التشكيلية ماضوية. هذا ما سوف تجيب عليه أعمال فنانينا التشكيليين. الذين سوف ينتبهون لما ينتجه العالم من فن، كما انتبه جواد سليم لذلك وخاصة في رسوماته المتعددة المتأثرة بمتغيرات زمنه الثقافية و التقنية..
للفساد إغراءاته وسبل اندساساته. وليس الفساد ذمة مالية فحسب، بل ذمة خلقية، وذمة علمية، وذمة ثقافية. وذمة سلوكية. وذمة سياسية أدهى، وهي التي تفبرك لمعظم دول العالم سلوكياتها الغير بريئة. كما إنها بضاعة قابلة للتصدير والتدويل، ولنا فيها نصيب كبير. لكن المشكلة الأعظم أن للفساد جذوره التي حفرت في العمق من سلوكياتنا المستجدة والموروثة تمجيدا وتعظيما للكبير على حساب الصغير حتى ولو كان لا يستحقه، والكبار عندنا كثر لحد إعاقة كل ما هو خير وصحيح. والعديد من أساتذة الفن الكبار عندنا لا يودون الإفصاح عن معلوماتهم لطلابهم، ولو أني اشك بان لديهم كفاية معلوماتية. هذا إذا ما اعترفنا بان لمعرفة الذات وتواضعها فضيلة. واعتقد من هنا جاء الانزلاق من قبل بعض هؤلاء وراء الأيديولوجيا الأصولية مخرجا لحرج مستديم لا
يمحوه إلا السعي لقراءة أنفسنا كما يقرأ غيرنا الذي تعدانا. فالفساد خراب للآخر وتخريب للنفس.
المتابع لنتاج التشكيل عراقي الخارج يجد أن كما من الأعمال الاعتراضية الكاشفة للحالة العراقية الغير سوية بكل المقاييس. أعمال تناولت التفجيرات الإجرامية، والتلوث والفساد الإداري. كذلك الضحايا ومعاناتهم وأحلامهم ، الحروب والغزو وآثاره. صحيح أنها أنشطة متفرقة. لكنها وصلت للعالم من أمكنة متباعدة ومتفرقة لطبيعة الإقامة في دول المهجر. المهم أن بعض من أرقى هذه الأعمال أو الأنشطة (بما أن بعض الأعمال التشكيلية هي نشاط جسدي او فيلمي) وصل وبأثر عال إلى العالم. ويرجع الأمر لهذا الزخم التشكيلي في اعتقادي
إلى مساحة الحرية الممنوحة للفنان والى عدم حجب المعلومة التقنية الفنية عنه والى ما لتداعيات الوضع السياسي اليومي العراقي من تأثير على الوسط الثقافي العالمي ومنه الوسط المؤسساتي التشكيلي. ولو بحدود معينة وان أصبحت الأداة الاتصالاتية العنكبوتية الآن تحرك حتى الشارع على إرهاب الدول المنظم. فاني أرى ان فصل النشاط الثقافي ومنه الفني ما بين داخل وخارج هو أمر في غاية السذاجة إلا إذا كان لبعض فناني الداخل وجهة نظر مغلقة لا تحبذ الانفتاح على الآخر وحتى لو كان من ضمن مجالهم الإبداعي. لكن يبقى الفصل على أشده في كل ما أشاهده من نتاج الداخل، فهل هي حالة مرض أم عطالة مزمنة أن تسود جماليات العمل الفني المألوفة وصنعته التقليدية على حساب كل متغيرات الحراك التشكيلي المعاصر وتقنياته ومبتكراته. لننقذ العمل الفني من الحسابات النفعية الوقتية لصالح رحاب الصدق الذاتي ولننظر حولنا ونحكم أنفسنا في كم الصور العراقية الصادمة التي تطالعنا كل يوم ،فهل نحن حقا خارج أطرها وهل ندع أنفسنا تفسد تغافلا.
وأنت تعيش يوميا وسط حاضن بيئي ملغوم بهيمنة إيديولوجية ما تمددت جغرافيتها لأكثر الزوايا الاجتماعية هشاشة والتي دغدغتها بحراك أحلامها الدنيوية والأخروية بعد سبات إجباري لعدة عقود زمنية. بالتأكيد سوف تتسلل إلى ذاتك عدوى الشارع الملغوم بفضاء نثار هذه الادلجة. لكن، وللتذكرة لو استرجع فنانونا التشكيليون عقود الخدر التي صنعتها الحقبة الدكتاتورية الصدامية السابقة فبالتأكيد سوف ينتبهون لعدم تكرار غفلتهم. ومحاولة إعادة بناء إستراتيجية ثقافية لا تغفل ماوراء الحدث المحلي ولا تلغي مساحة الثقافة العالمية الكاشفة لحراك عصرنا الحالي لا عصورنا السلفية التي استهلكتها أزمنتها السابقة قبل أزمنتنا.
قبل عام صنعت بوسترا عن كارثة الألغام في العراق. لكني وجدته الآن يصلح للتنديد بالفساد المستشري في العراق. فالفساد برأي هو القنبلة الموقوتة التي سوف تعصف بنا كما حدث هذه الأيام لعدة نظم عربية. اللغم يندس تحت التربة ليقتلنا والفساد يندس مفخخات تقتلنا عشوائيا. الذي يفخخ نفسه موعود بالحور العين. والذي يبتز ويسرق المال العام يشرعه وشريعته يفخخ بلدا بأكمله وهو يبني لمجده ومجد أبنائه بالوقت الذي يشجع في سلوكه الآثم مساعدة من يبقر بطوننا تفخيخا بجرم سلوكه هذا، لا بما يبني العراق ويواسي أرامله بما يشفي أطفاله وبيئته مما لحق بهم من كوارث تلوث أسلحة الدمار الشامل. وأخيرا هل لنا أن نشاهد أعمال تشكيلينا وهي تتناول كل ذلك وهل بإمكان أعمالهم أن تسبر صورة العراق كما نرى فواجعه اليومية. إن عجز الكبار عن ذلك
فأملنا منعقد على الشباب في قراءة زمنهم العراقي الجديد تشكيليا وليس بعيد عن كل صوره الصادمة.

مالمو
18ـ02ـ01