د. أثير محمد شهاب: إشكالية الرواية العراقية اليوم هي تداخلها مع السيرة الذاتية التي تحمل فكرة تدوين حياة شخص بحسب التعريف البسيط لها، ومحاولتها الابتعاد عن ذلك إلى عالم مفترض تجسده احداث النص، وقد خلق التداخل حساسية أجبرت الكثير من الروائيين العراقيين إلى اللجوء إلى القول بالرواية، في حين يحمل النص الكثير من المقتربات التي لا يمكن قبولها إلا من خلال فن السيرة سواء بتشابه المضامين مع الواقع ام الاعترافات الداخلية ام طريقة السرد التي تحمل في مضمرها التعبير عن الذات، ومن ذلك فهو يدون سيرة الذات الكاتبة، بما يحمله الواقع من إرهاصات ومتغيرات تفرض على الواقع والإنسان مجموعة من القصص التي تصلح مادة للعمل الروائي، ولكنها (أي الرواية) في شكلها السردي تحمل مضمرات سيرية للكاتب نفسه، او لذات اخرى، بمعنى سيرة غيرية اشترك الكاتب مع شخصيتها في صناعة النص، رغبة في تقديم حكاية غير مقبولة في الفضاء الطبيعي لأية مجموعة بشرية، لما تحمله من مفارقة، واعتقد ان الميل الذي تسجله هكذا روايات (امرأة القارورة لسليم مطر، خضر قد والعصر الزيتوني لنصيف فلك، الطريق إلى تل مطران لعلي بدر، واخيرا المحرقة لقاسم محمد عباس) محاولة للابتعاد عن اشتراطات فن السيرة، ويبدو ان عدم اللجوء إلى تسجيل العنوان الاجناسي الذي يحمل (سيرة ذاتية) هو ارتباط فن السيرة بتجربة كبار الكتاب الذين يسجلون في نهاية تاريخهم الإبداعي سيرة ذاتية تكشف عن ملابسات حياتهم او طريقة عيشهم او المرحلة، وما تعرضوا له من أزمات جعلت حياتهم تتجه في هذا الإطار او ذاك النحو.
رواية المحرقة لقاسم محمد عباس دخلت في إشكالية التجنيس، وهي تشبه الكثير من الروايات العراقية التسجيلية التي تسعى إلى تغليف الخطاب السيري بمجموعة من الموجهات المفترضة التي تحول المتن من السيرة إلى الرواية، ومع قبول متن التسجيل الذي هو إعادة إنتاج لتاريخ عراقي مرت به الأجيال العراقية، فقد نجح الروائي في وضع خطة الهروب كجزء من موجهات متن الرواية، مثلما هي رواية سليم مطر في وضع شخصية البطل في اكثر من صورة حتى تتحقق عملية الهروب، ومع هذا التمثل الهروب لشخصية غسان وقيام مروان بالدور البديل، إلا أن نتائج الهروب قد وضع العائلة في دور من الانهيار المستمر، من مرض الأب إلى موته إلى زواج ياسمين ابنة عمه إلى موت الأم.
هناك خرق بديهي لم ينتبه إليه الروائي في مقدمة الرواية عندما طلب غسان(أي مروان) من شخصية كامل النزول إلى بغداد، بعدما تم وضعه في السجن، والهروب ضمن مدة متفق عليها من المشفى إلى بغداد، وقد انتقل السارد مباشرة إلى توصيف شخصية مروان وهو داخل البيت من دون ان يذكر للقارئ مواجهات الإنسان الذي يأتي من الحرب إلى بيته، وما قد يتعرض له من لجان التفتيش(قوات الانضباط) والتي لم يكن يفلت منها إنسان حتى لو كانت وحدته العسكرية ضمن حدود بغداد، فكيف لو كانت في البصرة، وان الشخصية قد انتقلت من البصرة إلى بغداد من دون إشارة إلى هذه المفارز، ففي نهاية الفصل يذكر نهاية الحوار مع كمال الذي اخذه جانبا ليؤكد له ضرورة عودته حتى لا يعرضه إلى مشاكل (تذهب وتعود بالسلامة، انتظرك، اذهب وعد سريعا) 114، وفي الصفحة التالية التي تؤشر بداية فصل جديد ينتقل السارد إلى البيت مباشرة من دون الإشارة إلى أية معوقات في أثناء الطريق (كنت وصلت بغداد في الصباح الباكر، ونزلت من سيارة التكسي ) 115، وفي موقع متقدم من الرواية نجده يذكر نقاط التفتيش بشكل عابر وما لها من دور في السيطرة على حياة الإنسان العراقي، فعندما أراد النزول إلى البصرة ليلتقي بساهرة صديقة غسان التي كلفت ببيع المعمل الذي لم يكن يعلم به، قال للعريف الذي سيسمح له بالنزول من المعسكر في البصرة إلى وسط مدينة (تأكد انني لن اهرب احتاج فقط لبضع ساعات وكمال كفيلي، ثم ان المكان الذي اقصده يخلو من نقاط التفتيش، او الدوريات العسكرية) 146.
والقضية التي تثير القارئ داخل متن الرواية الإباحية في بعض المشاهد، حيث التفصيل في المشاهد الجنسية على النحو الذي اخذت الرواية طابع الشرح غير المبرر مع شخصيتي أميرة(157) وليليان(205-207).
وفي المقتربات الاخرى التي تقدمها رؤية القراءة، مفهوم طعن البنيات السردية، إذ للقارئ الحق في نقد الخطاب الروائي عندما يجد نفسه مشتركا في تأريخه ووقائعه (ينظر :الأدب والأنواع الأدبية، نخبة من الأساتذة، ت.طاهر حجار، دار طلاس، ط1، 1985: 154.)، فالمدة الزمنية التي تقدمها الرواية، هي الحرب العراقية الإيرانية التي اشترك فيها الكثير من الأجيال العراقية، بمعنى انها اصبحت جزءا من ذاكرة وطن، أضف إلى أن المتن الروائي يتجه نحو ضخ النص بمجموعة من التصورات التي لا تتحملها الشخصيات وتعكس مزاج وثقافة الكاتب، اي ان سلطة الثقافة التي يمتلكها الكاتب قد هيمنت على شخصياته ( انه خطأ كبير ان نلزم الآخرين في ان يتخلوا عما لا ينسجم مع مواقفنا وأفكارنا في ظل الحب او الصداقة) (134)، وفي موقف اخر يقول: (لقد كنت أسيرا لموقف الأبوة التي تجعل من الأب سلطة اجتماعية ثابتة) (135) وهذا يدل على أن شخصياته لم تتحرك بالشكل الذي ينبغي لها، وإنما قام الكاتب بقمعها والحديث بالنيابة عنها، واعتقد ان واحدة من الإشكاليات التي تقدمها الرواية الحديثة (صراع الافكار على لسان الشخصيات)، هو كيف يمكن ان يقدم الروائي الأفكار على لسان شخصياته المختلفة في الجنس والعمر والهوية الثقافية، وقد وجدنا ان شخصيات قاسم محمد عباس كلها تتحرك على نحو واع من التفكير من دون ان تكون هناك لحظة لتأمل طبيعة القول، وما قد يصدره (س) من الشخصيات و(ص)، لذلك وجدناه يزج شخصياته في الجامعة(كنوع من الإقناع)، من شخصية (عبد الوهاب الأمين إلى منير) تارة إلى شخصية كمال تارة أخرى (العازف على الكمان) دلالة على نوع ثقافي بديل، ويبتعد قليلا إلى قارئة الرواية في شخصية (ليليان)، وهو لا يقف عند هذا الحد، بل يذهب ابعد من ذلك حينما يحول واقع الرواية إلى عالم برجوازي بامتياز، تدور أحداثه في القصور والبيوت الكبير(الوزيرية والخضراء(119) بوصفهما مكانين برجوازيين، فالأماكن صناعة تقوم بها السلطة) التي تتضمن الحدائق الكبير(كان مشهد الحديقة بالنسبة لي ملاذا بلون اخضر يحيط بجلسة أمي من كل جانب، وكنت اشعر بفرح كبير كلما التقت نظراتنا وهي تطلب مني النزول لتناول الغداء) (65) ويزيد من ذلك حتى مع انتقال العائلة من بيت إلى اخر في لحظة ذهابه الى ساحة المعركة، لذلك لم نجد العوز المادي يحيط بالعائلة او شخصية البطل(لأنها عوائل برجوازية تملك الشيء الكثير) (117)، ونجده في مكان اخر يجعل من المطعم الذي يدخله جميلا جدا(كان المطعم جميلا من الداخل، فالقناديل الجانبية تدلت بالسنة الضوء فوق الموائد) (42).
مع كل هذا الذي قيل الذي هو عبارة عن رؤية نقدية فاحصة للمتن، اجد ان الروائي قد امتلك أدواته في إدارة الحوار والتنقل من فضاء إلى اخر بمهار سردية تثبت خصوصية رواية أسهمت فيها أجيال عراقية غيّبتهم الحرب واخذت من أجسادهم قطعا صغيرة وكبيرة، لذلك اجد ان النقطة الجوهرية التي ركز الكاتب عليها، تتلخص في قوله لعبد الوهاب الأمين حينما باغته بالكشف عن شخصيته( نحن جيل تحطم على مرأى من نظر العالم، لا ادري كيف سيتحدثون عنا فيما بعد، أشعرتني كلماته بالكآبة، فقلت: سيمر الأمر وكأن شيئا لم يحدث، تأكد من ذلك) (190)، هذا الحوار الذي قدمه السارد يكفي لبيان أهداف كتابة النص الذي سيتحول بلا شك الى وثيقة، وثيقة جيل منهار تم نسيانه، وتجاهله...إنها وثيقتنا التي تكشف عهر الأنظمة الاستبدادية التي أسهمت في الوقوف إلى جانب الحرب وتركت الإنسان العراقي في الصحارى والمشافي والواقع الحزين، يفتش عن بارقة أمل افترض انها ستأتي، وربما لن تأتي.