التطرف والإغراق في المبالغة والحدة الشرسة في التعبير عن المواقف والآراء والأفكار والتوجهات هي واحدة من أبرز طباع وسمات الشخصية العراقية عبر العصور!، فالإسلامي العراقي ليس كسائر الإسلاميين؟ بل أنه في طروحاته يزايد حتى على الرسل والأئمة!!، أما (القومجي) العراقي فهو ظاهرة بشعة من ظواهر العنصرية التي تتواصل وتتقارب مع الأفكار النازية في إحتقار الآخرين ونسب الفضائل للعرق العربي وحده وهي مأساة مركبة عاناها المجتمع العراقي الحديث من خلال تجاربه السياسية المغرقة في الفشل والخيبة والهزيمة خصوصا وأن الفكر البعثي هو أحد أبرز محاور التوجه القومي، أما (الشيوعي) العراقي فلا حاجة للتذكير من أن تعصبه الفكري والسلوكي يزايد حتى على مصداقية (كارل ماركس)!! أو الرفاق (لينين) و (ستالين) و(بريجنيف) و (بودغورني) وحتى (ماو) و (تروتسكي) و(إيريك هونيكر)!!، وحمامات الدم التي صبغت الشارع العراقي طيلة عقدي الخمسينيات والستينيات من خلال الصراع بين القوميين والشيوعيين كانت التعبير التراجيدي المرعب عن أحوال التطرف الفكري وما يجلبه من مصائب على الشعوب المتخلفة في العالم الثالث، وطبعا لن نتوسع في الحديث عن الظاهرة الميدانية السائدة حاليا وهي تطرف وغيبية وخرافية سلوكيات بعض الأحزاب الطائفية في عراق اليوم من شيعية أو سنية تكفيرية وتفخيخية!، فتلك نتائج طبيعية لمجتمعات مريضة لم يقدر لأبنائها النشوء والإرتقاء في ظل نظام تعليمي صحي أو وضعية إجتماعية محترمة، فالخبيث لا يفرز إلا الخبيث، وحكم البعث البائد الذي حطم وهشم كل القواعد والمرتكزات الإجتماعية والفكرية السليمة وأنتج أجيالا من الأغبياء والمجرمين والضائعين كان لا يمكن أن يقود العراق إلا نحو الكارثة المؤكدة وهي التفكك والصراعات الطائفية والعرقية وتلاشي الروح الوطنية الجامعة، فذلك النظام الذي تعفن وظل يقاوم السقوط والإضمحلال متكئا على قواعده الطائفية والعشائرية ومعتمدا على حالة النفاق الشامل في المجتمع العراقي المريض لم يسقط في النهاية بأيدي ضحاياه من العراقيين ذاتهم بل أسقطته الإرادة والقوة الأميركية بعد أن إستنفذ ذلك النظام كل مبررات وجوده وأضحى عالة ستراتيجية كبرى، ولكن مع سقوط النظام البعثي السريع تبدت الكارثة وظهر المخبوء وتحققت بكل شفافية نظرية رئيس الوزراء العراقي الراحل (نوري السعيد) وهو أحد أعمدة النظام الملكي السابق في العراق الذي إختفى بمأساوية من المسرح السياسي العراقي عام 1958 وهي النظرية التي تقول وفق ما كان يردده (الباشا) الراحل : من أن العراق (بالوعة) وإن (الباشا) والنظام الذي يمثله هو غطاء لتلك (البالوعة)!! فما أن يزاح الغطاء حتى تهب الروائح العطرة!!، وهو ما تحقق قولا وفعلا منذ الدقائق الأولى لإنقلاب 14 تموز/ يوليو 1958، حين تجلت الروح العدوانية والمتطرفة في مقتل ومصرع العائلة الهاشمية الحاكمة في العراق والتي قادت العراق في أدق لحظاته التاريخية وصانت وحدنه الإقليمية والوطنية و حافظت على وجوده في أخطر تحولات التاريخ والسياسة، فكان منظر سحل جثث العائلة الحاكمة في شوارع بغداد عنوانا للعار الأبدي! وكان تقطيع الأعضاء هو المقدمة الموضوعية لحملات القتل الهمجية السائدة اليوم في العراق المريض! وكان (الباشا) نفسه ضحية من ضحايا ذلك اليوم الأسود حينما تناثرت أشلائه في مشهد رهيب ووصلت حتى (أصابعه) المقطوعة كهدية من ثوار تموز (الأشاوس) لقائد ثوار يوليو في مصر (جمال عبد الناصر)!! والتي تأفف منها؟ فمهما قيل عن حركة يوليو المصرية فإنها لم (تسحل) فاروق ولم تمس شعرة من باشوات وأمراء النظام العلوي المصري، أما في العراق فقد كان الوضع مختلفا لأن التركيبة النفسية مختلفة ومعقدة ومريضة ولا تلتزم بأية نواهي أو موانع، فلا التعاليم الدينية الإسلامية تجيز تلك الممارسات البربرية ولا شيم النخوة والشهامة والفروسية العربية تبرر ما حصل.. ولكنه التطرف العراقي المشهود والمريض!، وفي النهاية فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. وما أظنهم فاعلين!. ففي العراق اليوم تدور رحى معركة من نوع غريب تضاف لسلسلة المهازل العراقية المتوالية فصولا و هي معركة ما يسمى بإجتثاث البعث من العقلية والشارع العراقي مع ما يعني ذلك من إبعاد لكل القيادات التي كانت ذات تاريخ في عمل حزب البعث؟ وهي مهمة صعبة ومعقدة دون شك بل أنها قد تدخل ضمن قوائم المستحيلات لا سيما فيما لو عرفنا أن الجسم الحزبي البعثي في العراق كان متورما بأكثر من سبعة ملايين عضو عامل كانوا يمجدون بالقائد وبالقيادة التاريخية والملهمة!! وكانوا وقودا دائمة لحروب النظام العبثية! كما كانوا من كبار اللصوص والحرامية في الغزوة الكويتية الشهيرة صيف عام 1990، فصدام لم يكن هو من يفكك المصانع والمطابع ويقتحم بيوت الآمنين في الكويت؟ ولم يكن هو من يسرق الذهب وحتى المعلبات من المتاجر الكويتية! بل كان من يفعل ذلك هم جنوده في الجيش أو الجيش الشعبي البائد ثم في عناصر منظماته الحزبية التي مارست مهمة القمع، قبل أن تتكفل فرق (فدائيي صدام) أو تنظيمات عدي وقصي الإرهابية بذبح العراقيين والعراقيات بدعوى الحفاظ على الأصالة والشرف ومحاربة الدعارة! وهؤلاء العناصر ليسوا بالقطع من سكان المريخ، ولم يستوطنوا العراق بعد قدومهم بمركبة فضائية من مجرات وعوالم أخرى بل أنهم عراقيون ومن أهل البلد ومن مختلف ملله ونحله، وكانوا من الشيعة والسنة والأكراد ويكفي أن وزير إعلامه المهرج محمد سعيد الصحاف وكان آخر الهاربين هو شيعي المذهب! هذا غير قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية، فالفاشية والإرهاب لا دين لها ولا مذهب ولا عقيدة، وملايين العراقيين من البعثيين الذين كانوا يهتفون بصوت جهوري واحد (بالروح.. بالدم.. نفديك ياصدام) وعشرات الشعراء والمغنيين والموسيقيين الذين كانوا ينشدون للقائد الأوحد بإعتباره: السيف والراية والفكر والعقيدة ويقولون (معجزة أنت وداعتك ياسيدي والعراق بنور فكرك يهتدي)!! كل هؤلاء كانوا منخرطين بصورة أو بأخرى في تكريس الفاشية البعثية وفي صيانتها وحمايتها سواءا عن إقتناع أو عن خوف أو عن أي سبب آخر مصلحي أو نفعي، والطريف أن التشكيلات السياسية الجديدة العاملة حاليا جل أعضاؤها من نشطاء المنظمة البعثية السابقة، فجماعة الوفاق الوطني أو الحوار الوطني أو (الحزب الإسلامي العراقي) تضم عناصرا بعثية كانت فاعلة حتى بعد سقوط النظام حيث هرب البعض منهم لل (الدوحة القطرية) وبضيافة (قناة الجزيرة) ليعودون بعد ذلك كقادة وناطقي بإسم ما يسمى ب (الحزب الإسلامي العراقي)!! وهي من مهازل الوضع السياسي العراقي حيث يغير السياسي جلده بسرعة البرق ويتحول بعد عقود طويلة في خدمة الفاشية البعثية إلى مناضل لحقوق الإنسان؟ أو إلى مناضل إسلامي!! أو وطني؟ وكأننا شعب بلا ذاكرة تعي وتتذكر المواقف والتصرفات! والطريف أن أحد الراقصين السابقين في الفرقة الشعبية البصرية للفنون الشعبية قد تحول بطريقة الطفرة الوراثية لمسؤول فقهي وإعلامي في جماعة (جيش المهدي) الذي يضم عتاة المجرمين وبات هذا الراقص البعثي السابق يفتي ويتدخل في شؤون جامعة البصرة ويمنع الإحتفال بيوم المسرح العالمي بإعتباره بدعة!! وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..!!، وثمة حقيقة يعرفها أهل العراق جيدا وهي أن النظام البعثي الذي إستمر لحوالي أربعة عقود كاملات قد تمكن من فرض سياسة (تبعيث) كاملة في جميع محاور الحياة السياسية في العراق بعد القضاء المبرم على جميع القوى السياسية وتياراتها بدءا من القوميين مرورا بالشيوعيين وقوى اليسار ووصولا للإسلاميين بمختلف تياراتهم ومللهم ونحلهم وفرض شروطا على الدخول في الوظيفة الحكومية ومن أهمها شرط الإنتماء والعضوية في حزب البعث! أما المعاهد الدراسية فكانت تضع شروطا مشددة لضرورة الإنتماء الحزبي وكانت بعض الكليات مغلقة بالكامل للبعثيين ومن أهمها كليتا (القانون والسياسة) و (التربية)!! وكل خريج من هاتين الكليتين إعتبارا من عام 1977 لابد أن يكون بعثيا وفي درجة متقدمة حزبيا وينطبق الأمر على كل من الطلبة والكادر التدريسي!! أي أن النظام البائد حينما رفع شعار : (العراقي الجيد.. هو البعثي الجيد)!! والشعار الآخر (كل العراقيين بعثيون و إن لم ينتموا..)!! كان يعي ما يفعل! كما أن النظام البائد وبعد هزيمة الكويت وإطلاق ما يسمى بحملته الإيمانية عام 1994 قد تمكن من تمرير الآلاف من عناصره ودسها في التنظيمات والمدارس الدينية الشيعية والسنية!! لذلك خرج علينا اليوم هذا العدد الكبير من البعثيين السابقين الذين إرتدوا عمامة الدين والتدين المزيفة، وشكلوا الجيوش والعصابات الطائفية المريضة، ويتسابقون في عمليات الذبح والخطف والسلب والنهب والتطهير الطائفي وبقية الجرائم المخزية التي يقع فقراء العراق ضحية لها.. إجتثاث البعث تعني أساسا إجتثاث الفكر والممارسات الإجرامية الشنيعة التي ظلت ملاصقة للسياسي العراقي من أي هوية كان، فالبعث قد تخرج نحو مزبلة التاريخ بإمتياز، ولكن عقلية البعث وممارساته الإجرامية لم تزل تفعل فعلها في النفوس، وفي ظل الإحتقان الطائفي والفشل السياسي والخيبة في بناء الدولة والنظام الجديد فإن فاشية البعث ستظل مستوطنة لحتى.. ظهور المهدي.. ربما.. إنها المهزلة التاريخية في العراق، حيث الشقاق والنفاق و التنازع على الشفط والإمتيازات.. كما أنها المحنة التي قد لا تنتهي حتى يقرر الله أمرا كان مفعولا؟.

[email protected]