في 7 سبتمبر 2005م عند الساعة الثامنة صباحاً كانت داعية اللاعنف ليلى سعيد على موعد مع الموت. سقطت إلى الأرض فجأة بدون سابق إنذار. بدون مرض. وتوقف قلبها عن الخفقان، وغادرت هذه الحياة الفانية المتداعية.
كانت تمشي رشيقة كالغزال. تأكل بحمية. وتمارس الرياضة كل يوم. وتعيش سعيدة بين كتبها وبناتها وزرائعها وورودها. تتثقف كل يوم حتى في المطبخ، وهي تعد وجبة لذيذة لأفراد عائلتها، بالاستماع إلى محطة لندن (BBC)؛ فلم يعد المطبخ مضيعة لوقت السيدة بل مرتعا للثقافة.
كانت في معظم الوقت تتنصت الأخبار أولا بأول، وبجانبها ورقة وقلم، ومعها مسجلة صغيرة، فتقنص الأفكار والمعلومات والإحصائيات فتسجلها بدقة، وإن أعجبتها مقابلة أو حديث سجلته؛ فأسمعته أفراد عائلتها، فكل من حولها وما حولها يضخ ثقافة وأدبا.
ليلى سعيد هي أخت جودت سعيد (غاندي) العالم العربي. تتلمذت على يديه، وسبقته في بعض الجوانب. واعتنت بصحته. ورافقته في مغامراته الفكرية. صاحبته في رحلاته المعرفية. وكانت خلف كتبه التي ظهرت للنور مثل (مذهب ابن آدم الأول) و(الإنسان حين يكون كلاًّ وحين يكون عدلا) و(العمل قدرة وإرادة) (حتى يغيروا ما بأنفسهم).
(ليلى سعيد) هي النسخة الأنثوية لجودت سعيد، بفارق أنها كانت أكثر عملية، وتطبيقا لأفكاره، وأجرأ في دفع المرأة إلى عتبات متقدمة، لتأخذ مكانها، ولكن برفق ونعومة المرأة. جرَّت عليها سخط الأصوليون في مدينة كيبك الفرنسية في مقاطعة كيبك الكندية، حين رفضت دفع المرأة إلى الخلف مع الأحذية والصبيان؟
فهي بهذا تعد حقا (مجددة) في وضع المرأة المسلمة في القرن العشرين.
كانت تقول: العنف ليس فقط أن نمد اليد بالأذى واللسان بالسوء، بل تحت العنف تدخل النظرة الخائنة والكلمة السامة. وحينما خاطبت (ادريس المهدي) وهو من رسل اللاعنف في المغرب، نصحته أن يحرر ألفاظه من الخشونة، وجرس صوته من الإزعاج.وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير.
وهكذا كانت ترى (ليلى سعيد) في طيف اللاعنف امتدادا لمشاعر الحب في القلب، وبسمة في الوجه، وجمالا في التعبير، وإفشاء السلام لمن عرفت ولم تعرف، فيكون صاحبها حنانا من لدن الخبير وكان تقيا، وصولا بالطبع إلى التخلص من مفاهيم القوة وعبودية السلاح ومبدأ الإكراه quot; أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعلمون؟quot;.
وهذه الأيام نشهد معارك (دون كيخوته) بين إيران والغرب حول صناعة السلاح النووي فإيران تريد إقامة صنم نووي، كما فعل بنو إسرائيل من قبل، فيقلد الإيرانيون الإسرائيليين الحاليين، يضاهؤون قول الذين كفرو من قبل، فيقولوا لنجادي أحمد اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون...
يتحدث عالم الاجتماع (علي الوردي) في موسوعته الست مجلدات عن (تاريخ العراق الحديث) فيكتب ثلاثين صفحة عن امرأة مدهشة سبقت عصرها بقرن هي (قرة عين) فيقول كان فيها أربع خصال، لو كانت واحدة منهن في امرأة لكفت: الجمال الخلاب والفصاحة. والشخصية الكارزيمائية. والثقافة العالية.
وليلى سعيد كان فيها كل هذه الصفات وأكثر؛ فقد بدأت حياتها بالدعوة إلى الله، وتدريس الفتيات في المساجد، ليس بطريقة تقليدية في استلاب العقل وعبادة المظهر، بل بعقلانية من روح العصر، فليس المهم ما غطا الرأس بل ما دخل الدماغ وحوى.
ويرجع الفضل في معظم هذا التنوير العقلي، إلى الأفكار التي استقتها من فكر (مالك بن نبي) المفكر الجزائري، ومؤرخين عمالقة مثل (توينبي) و(ويلز).
كانت إذا تعرفت على عائلة من خلال قدرتها الدعوية في بناء العلاقات الاجتماعية؛ تذكر لهم كيف تغيرت نظرتها إلى العالم والتاريخ، حينما اطلعت على كتاب ويلز في التاريخ، فهو يبدأ من بدايات الحياة لينتهي بالعصر الحالي وحروبه ومصائبه، كما رأينا في الجنون الذي حدث في لبنان في صيف 2006م، وكلا حسبه انتصارا، وكان دمارا وإفلاسا أخلاقيا للجنس البشري،
لقد كتبت ليلى سعيد بحثا في هذا بعنوان رحلة الجنس البشري، لم يرى النور بعد، تقول فيه كيف أن كتاب (معالم في تاريخ الإنسانية) للمؤرخ البريطاني (هـ . ج. ويلز) ساهم عندها في تكوين بانوراما رائعة عن تاريخ الجنس البشري، وكانت تعيره للكثيرين للاطلاع؛ فكانت رحمها الله منارة للهدى. فبهداهم اقتده...
قبل موتها بقليل طلب منها زوجها كتابة وصيتها. وكانت على سفر إلى مصر لحفلة تأبين صاحب موسوعة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) المفكر المصري (عبد الحليم أبو شقة) وكان قد سبقها إلى دار الخلود بسنوات، وكان صديقا للعائلة، وولد كتابه الموسوعة من زيارته لعائلتها في ألمانيا.
كتبت ليلى سعيد في وصيتها: لقد فكرت في الأمر مليا. وحين كانت ابنتي مريم جنينا في أحشائي وليس عندي سوى عفراء ـ وقد أصبحت الأخيرة صحفية مرموقة ـ أن تربى على الإقناع ولا يمارس عليها الإكراه في التربية، أما مريم فمصيرها من مصيري. وفكرت في الموت جديا فوجدت أنه ليس هناك من عائق يحول بين وبين الالتحاق بالرفيق الأعلى.
سألها زوجها يوماً عن متع الجنة التي تطلبها؟ قالت الفكر!! ولعل أشدها متعة للعلماء وجود مكتبات عامرة هناك! أما أنا فأريد تخصيصا بعد أن يفتح الله عيني على الحقيقة فبصري حديد. أريد أن أعرف ألغاز الماضي وخفايا الوقائع وأسرار التاريخ. كيف قتل كينيدي؟ من كان فعلا وراء أحداث سبتمبر وكيف تمت؟ من احرق روما والقاهرة؟ كيف نجح لينين في الثورة البلشفية وماذا فعل ستالين؟ كيف عاش الرسول ص فعلا؟؟
كانت ملابسها بسيطة، ولكنها دوما نظيفة وأنيقة وعملية. أمتعتها قليلة ولكن ثمينة وعملية؛ من ساعة لونجينز عاشت معها 15 سنة، أو أحذية ألمانية أنيقة عملية. فرحها بكتاب جديد وفكرة سانحة. كانت تقول عندما تسمع أو تقرأ فكرة جديدة كم هي فكرة رائعة تشرح الصدر. كما حدث مع قراءتها لمذكرات (نيلسون منديلا)، و(ماجدولين) للمنفلوطي، و(العدامة) لتركي الحمد، وشيفرة دافنشي. ومئات أخرى من الكتب والروايات. أو حينما كانت تقرأ بعض مقالات زوجها فتصححها قبل أن ترى الضوء.
كانت الكتب تطوقها وتغمرها، وتحتشد بجنب رأسها في غرفة النوم على غير ترتيب، مثل دأب الفلاسفة. ولا يفارقها كتاب في ساعة انتظار، أو في رحلة عبر القارات التي كانت متعتها. بجانب نظارة قراءة متواضعة.
عاشت خفيفة الظل يوم ولدت، يوم ماتت، ويوم تبعث حية. ذهبت إلى بيت زوجها بحقيبة واحدة من (جهازها) كعروس. ودمعت عيني (أديب الصالح) أستاذ الشريعة حين وقعت عينيه على أغراض منزلها المتواضع، وودعت العالم خفيفة بحقيبة واحدة، من بقايا كل ملابسها وأمتعتها وأغراضها. وكان أحب إليها زيارة معارض الكتب ومتاحف العلم والعالم من أسواق وحلي وملابس وصيغة وإضاعة المال ومنع وهات..
وكانت تشع دوما جمالا وأناقة بدون أي مسحة تجميل .. فقد وهبها الله ذلك الجمال الخاشع المهاب الجليل.. ويذكر زوجها عندما رآها للمرة الأولى؛ فلم يتصور سوى أنها شمس أشرقت فليس للعين إليها سبيل.. سوى التسبيح بحمد الخلاق العليم..
هي وأخوها جودت سعيد رهبان علم بحق وكأنهم ليسوا من هذا العالم. فأما هي فقد اشتاق لها رب العزة والجلال، وأما جودت سعيد فهو يبشر بالسلام في أرض مليئة بالدم والأحقاد. مثل رسالة الدكتور (ألبرت شفارتزر) الفيلسوف الألماني في قرى أفريقية نائية..
كانت هي وأختها (سعدية سعيد) من اخترع اللباس الإسلامي (الجلباب) الجديد في بلاد الشام، بعد توديع النساء اللباس العثماني (ملاية الزم)؛ فلما خرجتا إلى الشارع وقفت النساء على الشرفات يتداعين للنظر والدهشة، ولكن كلا الاثنتين سارتا بتحدي؛ فكما كانتا من قبل من اختار لنفسه اللباس؛ فلا وصية لرجل عليهن، كذلك كان الحال في تطويره، وإدخال موديل جديد للسوق، حتى أصبح اللباس في كل مكان من الموصل حتى مونتريال، ولم يتعبدهن الشكل فكن يطورنه باستمرار، وكانت نظرتهن للباس أنه ليس عقيدة، بل عادة اجتماعية وثقافة وجمال ولباس التقوى خير.
وفي القرآن يخدم اللباس ثلاث أغراض: (يواري سوآتكم) للمناخ، و(ريشا) كعنصر جمالي، و(لباس التقوى) للغرض الثقافي.
وكل امرأة وكل أمة تشع بثقافتها من خلال اللباس الخارجي، واللباس يشكل الروح، مثل الرياضي الذي يتحرض بتغيير ملابسه للجري أو الملاكمة.
دخلت محنة الأنظمة الشمولية هي وأختها وزوجها وأخاها داعية السلام جودت سعيد، وكان حرصهم كبيرا أن يدخل السجن من دخل بسبب أفكاره لأنه كفر بالطاغوت، وليس من أجل أعمال إرهابية بقتل وتفجير أو الإعداد لذلك، وهي تذكر بداعية السلام البورمية المناضلة (أوانج سا سو كايا) والبريطانية (بونكهرست) والألمانية (بيرتا فون سوتنر) والسوداء (روزا باركس).
وفي محنة الدستور السوري عام 1973م دخل زوجها وأخاها جودت سعيد فروع المخابرات الجهنمية لمدة عام ظلماً، فأصيبت بمرض التيفية واقتربت من الموت حتى عافاها الله وكتب لها أجلا مسمى.
كانت جميلة بجمال قوقازي باهر بدون مساحيق تجميل، ناعمة رقيقة، خفيضة الصوت، لا تقول فحشا ولا تنطق هجرا، تمشي هونا، وتشجع على العلم وتعين أهله، سرا وعلانية، وتخاطب الناس سلاما سلاما.
وفي رمضان كانت تخص الطعام ليس للأزواج المتخمين؛ بل الشباب العزاب، أو من غابت عنهم عائلاتهم. كانت تقول: الأزواج عندهم أطايب الطعام، أما الشباب المحرومون فهم أولى بالدعوة والمأدبة، فكانت تجلس إليهم وتضيفهم وتكرمهم بالطعام والكلام، ولم تكن ممن يؤمن بالفصل، فتجلس للجميع، إلا من فصل الله بينه وبين الفهم، أو ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون، وكانت لا تفصل بين الجنسين في مجالس الثقافة، وكانت كل مجالسها ثقافة. وهذه التربية انتقلت لبناتها فخرجن شخصيات قوية ألماسية يجمعن بين الأنوثة والعلم والجدية والوقار وحب العلم وتقدير أهله.
كانت جدية بدون تجهم، كل صورها بأسنان تصلح دعاية لمعجون الأسنان، فلم تغادرها الابتسامة في صورة. فسبحان من سواها وعدل مزاجها وشرح صدرها.
كانت تنظر للحياة بإيجابية مفعم بالأمل والتفاؤل، يدها خضراء، محاطة بالخضرة في كل مكان وصورة ومجلس، فمع الثقافة دوما زرائع تشع خضرة وجمالا ورطوبة وأناقة.
معدنها نبيل، وخلقها زكي، وجريئة قابلت (عتاعيت) وجبابرة الفروع الأمنية بكل نعومتها تقرع أبوابهم من أجل قضية (عبود) وما أدراك ما قضيته؟
إنه رجل نام سنتين ونصف في السجن، لأنه أرسل مقالتين ونصف، بطريقة الفورورد إلى شخصين ونصف؟ ثم حرم من الحقوق المدنية لمدة عشر سنوات.
كانت جريئة صريحة نظيفة لا تخاف، لأنه ليس خلفها عنف وعمل إرهابي، أو محاولة قتل مسئولين، أو تنظيم يريد الانقضاض على الحكم على طريقة البعثيين الانقلابيين، ومن هنا جاءت قوتها. وكتبت في هذا مقالة نشرتها مجلة المعرفة السعودية بعنوان ثلاث بثلاث من آمن باللاعنف حصد الأمن.
ومن اتشح بعباءة السلام تحرر من العنف والخوف والجريمة.
أهم مزاياها أنها كانت تشعر كل من تلقاه أنه وحده دون سواه مركز اهتمامها ومحط عنايتها، فللأطفال البنات لعب جميلة، من فتيات بيضاء وسوداء، دفعا للعنصرية، وغرسا في النفوس أن البشر سواء مع اختلاف الألوان، وكانت تقدم للبنات أحيانا دمية سوداء جميلة، تركتها خلفها في منزلها الفارغ إلا من ذكراها حاليا، وللأطفال الذكور سيارات وما شابه، ولكن لا تقدم مطلقا أي نوع من أسلحة، ولو مسدسات مائية؛ فكلها تربية عنف طلقته ثلاثا. أما كبار السن فكانت تتحفهم بالسلام والكلام، ووجبة دسمة فكرية مع أطايب الطعام. فلم يكن مجلسها لغوا بل قولا سلاما سلاما..
كانت امرأة جدية صادقة منحت حياتها لبناتها الخمسة، وأسست نموذجا صالحا لعائلة متعاونة سعيدة، لا تعرف الملل وليس من مفرداتها، بناتها متعلمات مثقفات من التراث والمعاصرة، يثقن بأنفسهم والعالم، في عقول مفتوحة، وتدين ممزوج بوعي رفيع، بدون تعصب وظلامية، بين صحفية وفنانة ورسامة وباحثة في علم الأديان المقارن ومحامية وسيدة أعمال تتنقل في العالم، يتكلمن ثلاث وأربع لغات بطلاقة، في عالم غربي يموج بالإباحية الجنسية والعنصرية وروح الاستهلاك، فجنبتهن الموبقات الثلاث.
كانت البنات وهن صغيرات يرقبن كل رمشة جفن منها فهي كنز المعلومات الصادقة تروي للطفل بكل احترام. كان ذلك يحدث حينما يمزح الأب مع البنات في شيء، فتبقى ليلى سعيد المصدر الوثيق الدقيق للمعلومات الذي لا يخالطه مزح ولا يشوبه هزل.
عجنت من عنصر نبيل، فلم تحفظ في قاموسها اللغوي فحشا من القول، فهي بكل بساطة لم يكن في ذاكرتها كلمة قبيحة مما يتبادلنها الأطفال بشكل عادي في لشوارع فكانت تربيتها مثل مريم ...
وكانت ترى الجمال في كل شيء بما فيه عبارات الغزل والمخاطبة فيجب أن تستخدم فيها كلمات رفيعة المستوى، تنبجس من عين نبيلة، ولم تكن تتكلم العامية إلا اللمم. فكانت كلها سموا وعلوا تتكلم الفصحى وتخاطب الأطفال بذلك في معظم الوقت.
كتبت الكثير الكثير في عشرات الدفاتر الخاصة من المذكرات، وقرأت جبالا من الكتب، ومع أنها لم تكمل إلا الابتدائية، ولكنها في نهاية حياتها مع هذا الدأب المتتابع للمعرفة، لم يلحق بها أساتذة الجامعة، ويظهر ذلك في محاضراتها في مجالسها، وكما ظهر ذلك في سفرتها الأخيرة ومحاضراتها في المغرب مع أخيها جودت سعيد.
نشرت أو نشر لها القليل، فلم تكن من نوع من يذيع أخبار تفوقه، أو يرفع نفسه، فمن يرفع نفسها يضعها، ومن يضع مسه يرفعها. ومقالتها عن رحلة الجنس البشري سأكون أنا من يخرجها إلى النور.
اشتركت في المظاهرات في قضايا نظيفة للدفاع عن المظلومين ومعتقلي الرأي والانترنت بدون وجل، وحينما قيل لها أن من يصورها رجال المخابرات، قالت: أريد ذلك حتى أوصل كلامي لمن حيل بيني وبينه. فليس عندي أسرار أو شيء أخاف قوله.
كان موضوع المرأة يؤرقها بشكل خاص، وحينما حضرت مؤتمرا إسلاميا في مدينة (كيبك) الفرنسية في كندا في مسجد المغاربة، حاصرها (الفحول) من الرجال، وقطعوا الطريق أمامها، حين أرادت للمرأة مكانا لائقا بها في المسجد، وليس بين الصبيان والأحذية في الخلف، وراء حيطان وستارات وجدران، أو بكل قباحة ووقاحة (مصلى نساء ودورة مياه) جمعا للقبل والدبر، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وكانت ترى أن مشكلة المرأة هي في معركة الوعي أكثر من لباس وقطعة قماش. فكانت بهذا تعيد معركة الصحابيات في وجه فحول قريش: فاطمة الخطاب وخديجة وأم سليم وأم حرام وخولة...
ماتت في 7 سبتمبر من خريف عام 2005م عن عمر 63 عاماً، كما مات المصطفى صلى الله عليه وسلم في نفس العمر، وفي يوم ولادتها تماما، وقد تكون نفس الساعة، وبكت عليها الأرض والسماء وحيتان الماء ومحبي السلام، وحينما بلغ خبر وفاتها حيث سكنت لم يكن من أحد إلا بكاها ورثاها، حتى عمال سمامة البنغاليين الفقراء، فهي كانت تعاملهم بكرامة ولو كانوا عمالا فقراء فيبقون سر الخلق الإلهي، و(علم جير) العامل البنغالي الذي ينظف لها البيت بكاها أكثر من والدته التي ماتت. وتأتي الحسرة والحرقة والحزن من المساحة التي احتلها الغائب إلى الأبد.
ماتت في قمة اللياقة البدنية والجمال والعطاء ونضج الشخصية، مثل أي رياضي يستقيل بعد تحقيق أعظم انتصاراته، واختارها الله إلى جواره، فهو به فرح رضي الله عنها ورضيت عنه، ولكننا من خلفتنا بعدها خلعت قلوبنا من صدورنا، وما زلنا نبكيها حتى اللحظة، فقد شفطنا إلى أعماق ثقب أسود من الدموع والأحزان.
كلنا أشباح زائلة متسربلين بأقنعة الموت، وطيور هائمة عابرة في الزمن الكوني اللا متناهي، نترك خلفنا أثرا فقط.... والموتى يحييهم الله ويكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصاه الرب في إمام مبين.
وهناك مستريح ومستراح منه؛ فالعبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. وعندما يموت طاغية تفرح الأرض بالخلاص منه، وتتجهز للانقضاض على عرش جسمه فتحيله أنقاضا تأكلها الدود والذباب الأزرق.
وفي نفس العام مات سفاح لبنان المجرم غازي كنعان بنفس العمر 63 عاماً وهو يتلبط في دمه ساعات، بعد أن خبطت جمجمته رصاصة من الرفاق الذين خدمهم طوال عمره، قبل أن تقبضه ملائكة العذاب! فشتان بين موت وميتة، سواء محياهم ومماتهم. ألا ساء ما يحكمون.
ويبقى لغز الموت محيرا، وكيف يختار من كان في المهد صبيا، أو شابة بعمر 33 سنة في حادث سيارة مع زوجها في الأردن، قافلا إلى عمله في الكويت، أو ليلى سعيد وهي في القمة قبل الانحدار إلى الشيخوخة، لغز مطلق لا سبيل إلى استكناه مغيباته، فحكم الموت ليس له علاقة بالعدالة، وإلا ما قبض صالحا شابا، مثل سبينوزا الفيلسوف في عمر 42 سنة، ويبقي رمسيس إلى عمر التسعين يسوم الناس سوء العذاب...
وعلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
شيئان لا يمكن التحديق فيهما الشمس والموت. وكل تفكير فيه تيه في ثقب أسود، لأنه انقطاع الآمال ونهاية الرحلة، وتوديع الحياة الدنيا الفانية المتداعية، وحزن متراكب، وصدمة لكل معنى الحياة، ومبررات استمرارها..
كان (تولستوي) مع كل صباح يكتب نفس الفقرة : ما زلت على قيد الحياة..
وكانت أعظم مٍسألة وجودية عاقته عن متابعة الحياة بشكل سليم بعد كتابته الحرب والسلام هي مسألة الموت فلم يحلها إلا جزئيا وقرأ كل الثقافات والأديان فوصل إلى بصيص من أمل ....
وكنت أنا من يكتب هذه السطور محظوظا، فهي زوجتي التي منحتني 36 عاما من أجمل ما عشت، وهكذا طردت من الجنة، فأنا بعدها لوح من الزجاج، ضربته يد بحجر؛ فتحول إلى شظايا ليس إلى جمعها من سبيل.......