شهد العالم العربي خلال القرن التاسع عشر جملة من التحولات الاقتصادية، والتي تمثلت في الزيادة الواضحة في عدد السكان، حيث بلغ معدل الزيادة ما يقارب الـ 300 %، بواقع ارتفاع عدد السكان من 11 مليون نسمة في بداية القرن، إلى 33 مليون في أواخره، فيما ارتفعت قيمة التجارة الخارجية إلى ما يقارب الـ 100 مليون جنيه إسترليني سنويا.ومن هذه المؤشرات تتبدى ملامح النمو والتحول الذي شهده قطاع الإنتاج الزراعي(1)، إن كان على صعيد سعة الأرض المزروعة أو التحول في نوع المحاصيل.أم في مجال السعة التي ظهرت عليها الأسواق الأوربية في استيرادها للمنتجات الزراعية، وكان للنظام المركزي الذي تبلورت ملامحه في العاصمة العثمانية ومصر، دوره في تركيز العناية بقطاع الزراعة، هذا بالإضافة إلى نجاح الإجراءات الوقائية التي اتخذتها الإدارة الحكومية في الحد من جوائح الأوبئة مثل الطاعون والكوليرا، تلك التي كان لها المساهمة البارزة في ظهور تلك النسبة الملفتة لزيادة عدد السكان.
توسع الإنتاج
كان للطلب الأوربي دوره البالغ في توسع حركة الإنتاج الزراعي في سوريا والعراق، ولم يختلف الحال بالنسبة للمناطق الرعوية، تلك التي راحت تجتهد في زيادة إنتاجها من الصوف والجلود، ومن واقع التدفق الملفت للرأسمال الأوربي والأرباح التي راح ينالها التجار، فإن الحكومة العثمانية تطلعت نحو استحداث هيئات رسمية، غايتها العناية بجودة المنتج والعمل على زيادته(2)، فكانت دائرة الدين العثماني العام التي سعت نحو الموازنة بين الديون الهائلة المستحقة لصالح الدول الغربية، وأهمية ابحث عن موارد لتوفير مجالات السداد، أو شركة الريجي للتبغ. وبالقدر الذي استطاعت فيه السلع الأوربية من التسلل إلى أسواق الشرق الأوسط، وتعرض أهل الحرف إلى المنافسة الشديدة من قبل الشركات الأوربية، إلا أنهم سعوا إلى تطوير أساليبهم الفنية وتحسين إنتاجهم، بل راحوا يبحثون عن أسواق جديدة لتصريف البضاعة، وهذا ما كان يشير إليه واقع الحال بالنسبة لصناعة النسيج في سوريا، والحرير في لبنان، والتبغ والإسمنت في مصر.
النموذج الجديد
كان للتوسع الاستعماري دوره الواضح في بروز حالة من التحول على صعيد العلاقات التجارية، لا سيما في مجال نموذج اقتصاد السوق والتجارة الحرة، لكن هذا لا يعني بأن الإدارة الحكومة المحلية كان دورها مغيبا، إذ سعت الحكومات نحو توسيع مجال المنافسة عبر خفض الضريبة الجمركية، والأخذ بالقوانين التجارية المستحدثة بغية فسح المجال أمام الاستثمار الأوربي، بوصفه يملك رأس المال الكبير، مما يكون له الدور الإيجابي في تفعيل النشاط الاقتصادي في المنطقة.لكن هذا الواقع لم يمنع الجانب الأوربي من استغلال طموح الحكومات المحلية، عبر إغرائها بالمزيد من القروض(3) والتي تحولت إلى قيود يعسر الفكاك منها، بل ومدخلا للتدخل وبالتالي فرض السيطرة المباشرة على الأنظمة والسياسات العامة، ولم يقف الأمر عند هذه الحدود، بل راحت القوى الأوربية تزين للحكومات أهمية الحصول على الأسلحة والآلات الحديثة، والتي كان لها الدور البالغ في تحمل ميزانيات تلك الحكومات المزيد من العبء والثقل على مستقبل النشاط والنمو الاقتصادي لدى تلك البلدان.
حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت القوى الأوربية تحرص على تنظيم علاقتها بالحكومات المحلية عبر العلاقة القائمة على أساس التنظيم الاقتصادي الدولي، من دون الوقوع في توسيع مجال العملية السياسية، لكن التطورات التي شهدتها طرق التواصل التجارية العالمية (4)، لا سيما افتتاح قناة السويس عام 1869 ساهمت في تعجيل مدار توطيد أواصر النفوذ الأوربي، عبر السعي نحو الحفاظ على المكاسب التي تحققت للقوى الأوربية الكبرى وتعزيز ربط المنطقة بنمط الإنتاج الرأسمالي وبالتالي ربطها بآلية السياسة الأوربية.
دور التجار والملاكين
لقد وجد الفلاح والمزارع في مناطق الشرق الأوسط، نفسه واقعا في إسار نمط الإنتاج الذي فرضته عوامل التبعية للإنتاج الرأسمالي، حتى كانت عوامل من نوع؛ البحث عن القروض والتمويل والبحث عن البذور المحسنة، من الأسس التي ساهمت في توسيع دور التجار وملاكي الأراضي للسيطرة على العلاقات الإنتاجية، بل أن طريقة التمويل أتاحت للمستثمرين التدخل في إقرار نوع المحصول الذي يجب أن يزرع في تلك الرقعة أم تلك، بناء على متطلبات واحتياجات السوق الرأسمالي. فبالنهاية يكون المسعى من قبل الرأسماليين نحو تحقيق أوسع الأرباح، ومن هنا راحت تتبدى ملامح التبدل في علاقات الإنتاج والتي راحت تتحول وبوتيرة متسارعة نحو نهاية العلاقة الباترياركية التي ميزت المجتمع الزراعي في الشرق الأوسط وتنامي دور الفئة الإقطاعية وكبار الملاكين في السيطرة على الأراضي الزراعية.
على الرغم من حالة الاندماج مع السوق العالمي، والذي كان له الدور الأبرز في زيادة صادرات البضائع الزراعية إلى أوربا، إلا أن الميزان التجاري بقي يشير إلى تفوق الفعالية التجارية الأوربية(5). هذا بالإضافة إلى أن الزيادة التي حصلت على صعيد الدخل بقيت تعاني من جملة من العوائق، كان الأبرز فيها:
1.إن التحولات الاقتصادية كانت قد شملت العالمين في حقل التصدير.
2.توجيه القدر الأكبر من العوائد نحو تسديد القروض والفوائد لصالح المستثمرين والمقرضين.
3.تركز النفوذ المالي والاقتصادي بيد عدد محدود من العوائل التجارية والإقطاعية.
4.بروز نمط الاستهلاك والرفاهية لدى فئات محدودة من سكان المدن والمرتبطين بفعاليات الإنتاج الرأسمالي.
5.توجيه العوائد المالية نحو توسيع نمط الحياة الأوربية، وتوظيفها في مجال السعي نحو النفوذ السياسي، والحصول على المناصب الرسمية.
6.تحالف البعض من الرأسمال الوطني مع توجهات ومصالح الرأسمالية الأوربية، حتى أنهم عملوا على توفير المجال لصالح القوى الأوربية للتدخل السياسي في شؤون المنطقة.
المحاصيل النقدية
من واقع التوسع الذي شهدته الفعاليات التجارية مع أوربا، كان التطلع نحو توسيع مساحات الأراضي الزراعية النقدية، ليرافقه توجها نحو العناية بتطوير وسائل الري، والاهتمام بوسائل النقل، وما رافقه من استحداث مناطق تجميع للمنتجات، والتي أصبحت بمثابة مراكز يجتمع فيها المزيد من المستثمرين والتجار وملاك الأراضي.، وبالقدر الذي راحت تتشكل ملامح التخصص الزراعي كزراعة القطن في مصر أو زراعة الحبوب في العراق، فإن ملامح التركيز والنمو راحت تبرز ملامحها في مناطق الموانئ، تلك التي شهدت انتعاشا على صعيد تصاعد النمو والتداول الاقتصادي.
يمكن ترصد المزيد من نمو الفعاليات التجارية والمالية، لا سيما في الموانئ والتي راحت تتنامى فيها الفعاليات بصورة لافتة مقارنة بالمناطق الداخلية، وإذا كان الحرفيون قد حاولوا نحو الإفادة من هذه المظاهر الجديدة، إلا أن الفائدة الأكبر كان قد تحصل عليها التجار المسيحيون في لبنان أو التجار اليهود في العراق، وهذا بحكم حالة التقارب والصلات التي عقدتها الأقليات مع كبرى الشركات الرأسمالية الأوربية.
كانت السمة التجارية قد تبدت ملامحها خلال بواكير القرن التاسع عشر، حيث البروز الواسع للنتائج التي تحققت لأوربا على صعيد النهضة الصناعية والزيادة الواضحة في الإنتاج، ومن هنا كان التوجه نحو وضع الأسس للتجارة الحرة المستندة إلى حركة البضائع وخفض الجمرك ومنع الاحتكار. لكن التطورات اللاحقة التي أفرزتها حركة الإصلاح العثماني وما تبعها من توجيه المزيد ن موارد الدولة نحو الإنفاق، كان له الأثر الأهم في توجه السياسة الحكومية نحو التركيز على الاقتراض من أوريا، ليجعل السبيل ممهدا لتوسيع نفوذ الرأسمال والشركات والمصارف الأوربية والتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للدولة العثمانية(6)، بل أن بريطانيا لم تتورع من فرض احتلالها العسكري المباشر لمصر في العام 1882.
النموذج السياسي
كان التحدي الأكبر الذي واجهته الحكومة المركزية والتي تبرز ملامحها بصورة أشد وضوحا في الدولة العثمانية والحكومة المصرية، قد تمثل في التطلع نحو الإصلاح الإداري، والسعي نحو ترصين التشكيلات العسكرية وتطويرها، والسعي نحو بسط السلطة المركزية على الأقاليم البعيدة.خصوصا وأن التحديات الأوربية كانت قد تفاقمت حدتها وتهديداتها بالنسبة للمنطقة، وبالقدر الذي توجهت الحكومة المحلية نحو تفكيك ملامح القوة والهيمنة الذي أبرزه نظام الامتيازات الأجنبية، في ظل التفوق التقني والزيادة المطردة لزحف السلع الأوربية في العالم العربي، إلا أن الواقع المباشر أفضى إلى إبراز المزيد من ملامح التبعية الاقتصادية، في ظل القوة المالية والاقتصادية التي حظيت بها أوربا(7)، وحالة توافق المصالح بين الرأسمال الأوربي وبعض القوى المحلية في المنطقة.والواقع أن الدولة العثمانية كانت قد توجهت نحو إصلاح قانون الأراضي فيها عبر سلسلة من الإجراءات المتعلقة بدفاتر الطابو وتنظيم الضرائب وتنظيم السجلات، لكن هذا كله كان يصطدم بالمصالح المستحدثة التي كانت تتبدى أمام الكيانات المحلية وأصحاب الأملاك في المناطق الزراعية.
تحديات القرن العشرين
تضافرت النتائج التي أبرزتها تحولات القرن التاسع عشر مع عواقب الحرب العالمية الأولى إلى بروز دور النخب، من موظفين وضباط جيش ومصرفيين وأصحاب أعمال وتجار، في التطلع نحو تمييز ملامح الإخفاق والفشل الذي رافق مجمل الأنشطة العامة، ليصار إلى أهمية تعزيز العالم الاقتصادي، بوصفه سبيلا للخروج من الأزمة التي ألقت بثقلها على الواقع السياسي.حتى كان الاتجاه قد تركز في أهمية تعزيز دور الدولة في توجيه الاقتصاد، عبر السعي إلى تنويع مصادر الدخل من خلال العناية بالتطوير الصناعي، ومحاولة الإفلات من هيمنة وسطوة الرأسمال الأجنبي. لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم بالتفاصيل التي يزخر بها الواقع، حيث اضطرت النخب الوطنية وخلال سعيها للبحث عن مصادر التمويل من الاعتماد على ملاك الأراضي والرأسمال الأجنبي، لتعود الكرة من جديد، حيث الاصطدام المباشر بين الرغبات والطموحات المتطلعة نحو بناء نموذج اقتصادي يتم من خلاله تدعيم التجربة السياسية ومحاولة الخلاص من التبعية.تلك الطموحات التي عبرت عنها توجهات الدولة القطرية في سلسلة من الإجراءات المباشرة والتي أخذت على عاتقها ترسيخ ملامح التحول الاقتصادي(8)، من خلال الاعتماد على الرأسمال الوطني والإفلات من الرأسمال الأجنبي، والعمل على تنويع قطاعات الإنتاج والذي كان مرتكزا على الزراعية ليصار إلى توجيه الأنظار نحو الاستثمار المالي والتجاري والإداري والصناعي، والعمل على توسيع دور الدولة في توجيه الاقتصاد.
إشارات وإحالات:
1. روجر أوين، الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي، ترجمة سامي الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1990.ص 33.
2.شارل عيساوي، تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت 1991، ص 112.
3.هاملتون جب وهارولد بوين، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة عبد المجيد القيسي، دار المدى، دمشق 1997.ص 49.
4.لونكرك، أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بيروت 2004.371.
5.مالكولم ياب، نشوء الشرق الأدنى الحديث، ترجمة خالد الجبيلي، دار الأهالي، دمشق1998، ص 163.
6.المس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر خياط، دار الرافدين، بيروت 2004، ص 266.
7.ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحيث في مصر والشام، ترجمة بشير السباعي، دار شرقيات، القاهرة 1997.ص 166.
8.حنا بطاطو، العراق ؛ الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1995، الكتاب الأول ص 261.
التعليقات