للزعفرانية الثانية وهذا أسمها تمميزاً عن الزعفرانية الأولى التي تقع فيها مزرعة الزعفرانية الحكومية حيث يتم بيع وتكثير الأشجار الى المشاتل والى الراغبين من الناس. يعود اسم الزعفرانية الى العصر العباسي حيث كانت قرية بهذا الأسم ويقال انها سميت كذلك لزراعة الزعفران فيها. منذ أن سكناها وجدنا أنها تتمتع بموقع مميز فبعد اجتياز معسكر الرشيد يتفرع شارع غير معبد على الجهة اليسرى يؤدي إلى الزعفرانية، وما إن تدخل اليها حتى تشعر أن هذه المدينة محصنة على طريقة القلاع القديمة فهي مسورة بشكل طبيعي حتى أنها غير قابلة للنمو لكنها نمت وكبرت وشاخت وظلت مسورة بالحب الذي يجمع أهلها، فمن الشمال طريق البصرة وخلفه quot;المقلعquot; وهو بحيرة تكونت بفعل حفريات قديمة وامتلأت بمياه الأمطار، كان يغامر بعض الصبية للسباحة فيها رغم عدم نظافة مياهها، من الجنوب الرستمية موقع الكلية العسكرية التي يحضر أولاد الزعفرانية مهرجانات التخرج للضباط، وفيما بعد انتظم فيها الكثير من أبنائها فصاروا ضباطاً مات الكثير منهم في الحرب العراقية الإيرانية، ومن الشرق السدة وهي سدة ترابية بنيت عام 1954 لدرء خطر الفيضان، كنا نتسلق السدة فنرى سلاح الدروع يجري تدريباته، والمظليون يقفزون من الطائرات ونحن نصفق لهم ظانين أنهم يدركون حماسنا ويسمعون هتافاتنا وحين تمر الطائلاات العمودية من فوقنا كنا نرى ملامح من فيها نحييه ويحيينا دون أن نعرفه أو يعرفنا، وعند العودة من السدة كنا ننطلق بدراجاتنا نطلق سيقاننا للريح بسرعة بفعل انحدار السدة، وبعضنا لم يكن يملك دراجة فيستأجرونها بعشرة فلوس من خالد البايسكلجي الذي كان يطارد من يتجاوز الوقت قبل ارجاع الدراجة، أما الغرب فله قصة أخرى حيث السور المقرنص الجميل سور جامعة الحكمة الأمريكية التي يفصل بينها وبين شارع الأورفلية مزارع واسعة للبامية صيفاً والخس شتاء، وشارع الأورفلية طريق ظل لفترة طويلة غير معبد وإن كان ممهداً ويمكن السير فيه، تمر فيه أحياناً سيارت عسكرية متجهة الى الرادار في نهاية الشارع، وهذا الشارع يوازي شارع الزعفرانية الرئيس، وقد اصطفت على يساره بعض quot;القصورquot; العائدة لعائلة الأورفلي المعروفة، هذه القصور التي اشتراها فيما بعد أبناء الزعفرانية، بينما استقر على نهاية الشارع على جهته اليمنى بيت عبد المجيد البحراني وهو رجل أظنه كان مديرا لبنك زوجته بريطانية، انخرط أولاده عبد الحميد وداود في مدارسنا لكن ظلت علاقتهم محدودة بالآخرين وهم يتكلمون العربية لكن ملامحهم انجليزية بالكامل، يقترب الصغار من هذه الدور يتفحصون أزهار حدائقها ويفرون دون سبب حين يلمحون أصحاب تلك الدور يعودون بسياراتهم الخاصة يوم لم يكن في الزعفرانية أكثر من أربع أو خمس سيارات. أما نساؤهم فلم يكن مثل أمهاتنا يتشحن بالسواد الفوطة والعباءة التي لا تظهر غير الوجه المتعب، كن نساء بيضاوات جميلات شعورهن جميلة وبعضهن كن يقدن السيارات بانفسهن.

لجامعة الحكمة تأثير كبير في نفوس أهالي الزعفرانية، وهي جامعة أمريكية يشرف عليها رهابنة أمريكيون ارتبطوا ببعض أهل الزعفرانية بعلاقات طيبة، ولم يكن مظهرهم غريباً في الشارع بل العكس من ذلك كانوا يلقون الاحترام والتقدير من الجميع، تجمعوا يوماً قرب بيتنا واجتمعنا حولهم دسست رأسي الصغير لأرى رجلاً أبيض يلبس قفطاناً أبيض بلا ياقة يصل الى قدميه وقد ثبت نظارة ذهبية على أنفه الصغير وشامة صغيرة على خده الأبيض ويحمل بيده كتاباً، اجتمع مع زملائه يدققون في نسر سقط بعد أن صعق بالكهرباء فتحلق الناس حولهم، نظر إلي فابتسم بود فانسحبت الى الوراء بحياء، أخذوا النسر وكان ضخماً معهم الى الجامعة، مثلما أخذوا عامر الذي كان كان يكبرنا بعدة سنوات وهو ذو توجه علمي خاص حين حقق معدلات عالية في دراسته حتى قيل انه صنع طائرة صغيرة، أخذوه وأرسلوه الى أمربكا للدراسة لم يعد بعدها.

زرعت بمحاذاة سور الجامعة أشجار اليوكالبتوس وهي أشجار عالية ظليلة نتخذها مكاناً للقراءة أيام الامتحانات غير أننا كنا نخاف من حارس الجامعة أحمد، يكفي أن نراه قادماً على دراجته حتى يدب الذعر في نفوسنا، هو شخص واحد لكننا كنا نعتقد أنه قادر على حراسة سور الجامعة الذي يبلغ طوله عدة كيلومترات، وهذه المزارع التي تفصل بين الجامعة وشارع الأورفلية ترتفع فيها البامية بمستوى عال نجتازها لنصل الى سور الجامعة نمضي ساعات في القراءة، إيقاع الحياة الهادئ علمنا على الصبر الذي يفتقده جيل هذه الأيام فأجده جيلاً ملولاً يبحث عن كل ما هو جاهز ولا صبر له على شئ.

[email protected]