انشغال طويل وخيبة أمل!
إذا قال مثقف عراقي إنه يلاحظ أن النزعة الأساسية اليوم لدى القيادة الكردية هي محاولة انتزاع أكبر قدر من جسد العراق مع كردستان، بينما هي تتحدث عن وحدة الوطن في حين أن المبادئ والأخلاق تقتضي المجاهرة بالقصد، فإذا أرادوا الانفصال فلينفصلوا الآن، وإذا أرادوا البقاء ضمن العراق فليعملوا على هذا الأساس ويضعوا الصخور الكبيرة تحت الجدران لا فوقها. إذا قال مثقف عراقي ذلك لا يعني إنه يتربص بالقادة الكرد ويتلصص عليهم وهم في أسرة نومهم، أو إنه يريد أن يضيق من مساحة كردستان وحق تقرير المصير للكرد!
الجزء الأول |
وإذا قال مثقف عراقي أن المعادلة بين الكرد والعرب قد مالت كثيراً جداً لصالح الكرد وغمطت حق العرب الطرف الأساسي في العلاقة الوطنية حيث إن الكثير من المواقع والمناصب والوظائف من رئاسة الجمهورية إلى الوزراء والسفراء ورئاسة أركان الجيش في العراق قد احتلها كرد، بينما لا يوجد مدير أو فراش أو موزع بريد عربي في كردستان فإن هذا لا يعني إنه لا ينطلق من معيار المواطنة، وحق أي مواطن عراقي في الوصول إلى أي منصب بجدارته، أو إنه ينتقص من كفاءة وقدرات الكرد في إشغال الوظائف، ولكنه يتصدى لهذه الظاهرة المنبثقة عن المحاصصة، ولهذا السعار في ممارستها مثل متصيدين شرهين وقعوا على ثروة أيتام، ولو كانوا قد وصلوا مراكزهم هذه باسم المواطنة لما تجرأ أحد على الاعتراض عليهم، لكنهم وصلوها عبر السباقات العرقية بدليل جعلهم كردستان حكراً لهم وكل شيء في العراق يجب أن يكون مباحاً لهم!
وإذا قال مثقف عراقي إن القيادة الكردية قد تنكرت لشعاراتها ووعودها القديمة حول التقدم والعلمانية والديمقراطية وبناء حضارة العصر، ورسخت حكم العائلة والعشيرة والحزب كواجهة وتحالفت مع أصحاب العمائم،ومع النهج الديني الطائفي الرجعي والمتخلف من اتباع الحكيم والسستاني والخط الإيراني لا لشيء إلا لأنهم يتفقون معهم بالفدرالية، بينما لو تأمل هؤلاء الكرد لوجدوا أن حقوق الكرد الوطنية وبما هو أكثر من الفدرالية له ضمانة حقيقية في ضمير الأحرار العراقيين، وبالتأكيد هو أكثر ثباتاً مما لدى قائمة الشمعة التي هي معرضة للانطفاء لدى أول هبة ريح! إذا قال مثقف عراقي ذلك لا يعني هذا إنه ضد العوائل المعروفة أو حق الكرد في قيام فدراليتهم أو دولتهم المستقلة، على العكس إنه يريدها أن تقوم على أسس رصينة ومشرفة وإنه يريد من الكرد دوراً وطنياً للعراق يتناسب وقوتهم وواجبهم إزاء العراقيين جميعاً!
وإذا قال مثقف عراقي إن القادة الكرد يتصرفون مع أنفسهم ومع أتباعهم ومع العالم كدولة مستقلة فهمم يحتفظون بميليشياتهم دون أسس قانونية ووطنية واضحة، و يتعاقدون مع الشركات الأجنبية على استثمار النفط، ويفتحون قنصليات للدول ويمدون صلات سرية وعلنية مع الدول والمنظمات العالمية، دون الرجوع للدولة المركزية ويطلق مسعود البرازاني التهديدات ضد تركيا كرئيس دولة مطلق الصلاحيات وليس كرئيس إقليم، ويزج العراق في مواقف لا يحتملها بينما هو والقيادات الكردية الأخرى يتعاملون مع العراق في القضايا المالية والاقتصادية كجزء منه، ويغالون كل يوم بمطالبهم في زيادة حصتهم من موارد النفط والضرائب ( و هم ككرد كانوا قد تقاتلوا مع بعضهم حول ضرائب المعابر الحدودية وغيرها ) وإنهم يقتسمون مبدأ المشاركة في السراء والضراء على الشكل التالي : السراء لنا، والضراء لكم،لنا حصص في نفطكم ولا حصة لكم في نفطنا، لنا كردستان والعراق ولكم ما تبقى، لنا الحق في كل ما في بيتكم ولا حق لكم في أي شيء في بيتنا، نتحالف مع من نريد ونشاكس من نريد وإذا تعرضنا لخطر تعالوا وخلصونا فنحن أبناء العراق! إذا قال مثقف عراقي ذلك فلا يعني هذا إنه يسخر من قادة الكرد إنما هو يقول الحقيقة المرة المضحكة حقاً ولا يعني هذا إنه يكره الكرد ولا يريد لهم الخير والازدهار،لذا ينبغي على هؤلاء القادة مراجعة أنفسهم خشية أن يكون ثمة غرور أو غفلة أو فصام عن الواقع قد انتابهم،وهكذا تحولات تصيب عادة من يعيش في عزلة طويلة، لذا لا بد لهم من تدراكها والخروج منها والمحافظة لكي تتوازن الأشياء حولهم ولكي تتوازن أوضاع الكرد مع أشقائهم ومع جيرانهم، ومع أنفسهم بالدرجة الأولى!
وإذا قال مثقف عراقي إن خارطة كردستان صارت كاللدائن الهندية تتمدد كلما اشتدت حرارة الأجواء حول العراق المسكين! فقد وصلت حسب مزاج أحد المساحين الرسميين الكرد إلى شواطئ البصرة مارة بالأعظمية حتى لقد قال أحد سكانها ( يبدو إنني كنت كردياً ولا أدري ) فلا يعني هذا إنه ضد حدود دولة الكرد، إنما هو مع حقهم في أرضهم يأخذونها كاملة دون أن تنقص متراً مربعاً واحداً، ولكن أيضاً.....دون أن تزيد متراً مربعاً واحداً!
وإذا قال مثقف عراقي أن القيادات الكردية لا تعمل شيئاً من أجل إنقاذ العراق مما يعانيه في محنته الراهنة من تدهور في الوضع الأمني ومن تمزق وطني واحتراب واسع النطاق، على العكس فهي حتى مع انخراطها في بعض الإجراءات العملية كإرسال مسلحين أو عقد بعض اللقاءات فإنها على المستوى السياسي ما تزال تضغط باتجاه استثمار ضعف العراق للحصول على أكبر قدر من المكاسب على صعيد ضم كركوك أو تشريع قانون للنفط لا يخدم العرق ككل وإنما يبعثره بين أيدي حكام الأقاليم،وإنها تتعامل مع المشكلة السياسية في العراق بشكل انتقائي وبالطريقة التي تخدم مصالحها ومواقعها لا مصالح العراق ككل بينما الواجب يقتضي أن تصدر الكثير من المبادرات والاصطفافات الجديدة من كردستان خاصة على صعيد المصالحة الوطنية إذ من البديهي أن المشكلة الأمنية في العراق هي سياسية بالدرجة الأولى!
وإذا قال مثقف عراقي لماذا كل هذا الصخب حول كركوك،والناس تقتل وتحرق في الشوارع، والعراق يذبح على منصة القوى المتصارعة عليه! لماذا هذه اللجاجة في طرح قضية خطيرة ومعقدة وحساسة من شقيق يفترض إنه مسعف لوطنه لا مخوض في لحمه ودمه. ثم لماذا يستعار اسم القدس لكركوك من لغة معركة العرب مع إسرائيل والقضية بينكم وبين أشقاء كما تقولون؟ وإذا كنتم واثقين من أن كركوك لكم وإن وثائق التاريخ والجغرافية هي معكم فلم هذه العجالة وهذا الهوس في جلب مئات الألوف من الكرد بعضهم من تركيا وإيران وسوريا إليها؟ وإذا كنتم تريدون استفتاءً عادلاً فاستمعوا لما يطرحه فقهاء القانون الدولي من تحفظات على الاستفتاءات المحلية، ومعظمهم لا يقرها مثلما لم تقر المحكمة الدستورية العليا في كندا نتائج الاستفتاء في مقاطعة كوبيك،وحين يجيزونها يشترطون إجراءها على مستوى الوطن كله احتراماً لإرادة الشعب كلهzwj;. إذا قال مثقف عراقي هذا هل يعني ذلك إن يريد انتزاع شيء من حق الكرد؟ لا، إنه يريد منح الأطراف جميعها حدوداً غير هشة وخالية من صناديق المتفجرات ولا تكون موضع منازعات أبد الدهر حيث الكرد والعرب ينتقدون الإنجليز لرسمهم حدود دول المنطقة بطريقة خبيثة خبأت تحت ترابها صراعات المستقبل، فلماذا تفعلون مثلهم ؟
وإذا قال مثقف عراقي لماذا يطرح القادة الكرد قضية الانفصال بهذه الإلحاح ولو تحت غطاء من السرية والالتواء وهم يعرفون جيداً أن الوضع الدولي لن يسمح بقيامها، أليست هي سذاجة أو مقامرة التفريط بشي مضمون في عراق موحد واتحادي يقوم على العدالة والتكافؤ في توزيع السلطات والثروات والواجبات من أجل دولة غير مضمونة الوجود؟ وكيف يستطيع الكرد تحقيق وحدتهم مع الأجزاء الأخرى من كردستان الخاضعة لإيران وتركيا والمستميتتان عليها،وأمامهم تجربة العرب حيث لم يستطيعوا تحقيق ولو جزء من وحدتهم على أقطار مستقلة ودول قائمة جاهزة؟إذا ذكرهم مثقف عراقي هل يريد تفكيكهم وتمزيقهم؟ أم تبصيرهم إلى طريق يفضي بهم في النهاية إلى وحدتهم وإن طال المسار ؟
وإذا قال مثقف عراقي مثلما للكرد حق الانفصال عن العرب والتركمان والكلدوآشوريين فإن للعرب أيضاً حق الانفصال عن الكرد! ومثلما يرى الكرد أن توقيت هذا الانفصال ينبغي أن يكون بأيديهم، فإن العرب يرون أن يكون توقيت هذا لانفصال ينبغي أن يكون بأيدهم! وهذا لا يعني أنها دعوة للتخلي عن الكرد في منتصف الطريق،فالنصف الثاني من الطريق صار لا يعرف فيه من سيتخلى عن من، وما دامت حقوق الكرد الأساسية قد أمنت،وما دام قادتهم يصرون أو يبيتون الافتراق فإن للعرب وغيرهم الحق في وداعهم متمنين لهم السلامة!
ثم لماذا يؤجج العداء والنفور لدى الكرد ضد العرب في العراق وهم الذين منحوهم أخوتهم كما لم يمنحها لهم شعب آخر في العالم! إذ أقروا لهم بحقوقهم وعاملوهم وما زالوا يعاملونهم بكل احترام وتقدير، بينما الدول الأخرى ترفض الإقرار حتى بوجودهم أو استعمالهم للغتهم؟ لماذا يحتسبون جرائم صدام بحقهم على العرب، بينما العرب مثلهم عانوا الكثير من قمع صدام وإرهابه،وليتذكروا القبور الجماعية في الجنوب مثلاً! هل إذا قال مثقف عراقي ذلك يعد متجنياً على الكرد أو متحاملاً عليهم، أو أنه يصفهم بالعقوق والجحود أو إنه يريد التشكيك بنواياهم الحسنة وحقهم في مزاجهم المتميز، أم إنه يحاول تبصيرهم بما هو أجدى وأنفع لهم ولشعبهم الذي تحمل الكثير من الويلات ولا ينبغي زجه بعداوات وضغائن.ومن الضروري له بعد عهود الكراهية أن يبدأ عهداً من المحبة والانسجام والعمل المشترك خاصة في المجال الاقتصادي إذ أن التقاء الجبال بالأهوار بالبوادي هو وحده ثروة تفوق النفط!
واليوم يبرز بشكل أقوى السؤال الذي طرحه المثقفون لخمسين عاماً وإن بإشكال مختلفة : إلى أي مدى سيكون أفضل أن يحقق الكرد مستقبلهم ومصالحهم خارج إطار العراق؟ وبنفس الوقت إلى إي مدى سيكون أفضل أن يحقق العراق مستقبله بدونهم؟ إن مناقشة هذا السؤال أضحت ملحة جداً مهما يبرز خلالها من قضايا مؤلمة ينبغي عدم التردد في مواجهتها وحلها سواء كانت النتيجة هي المسار الواحد أو المسار المختلف،وعدم إضاعة الوقت وهدر الجهود والثروات والأهم من كل شيء : قتل الأرواح البريئة !
وإذا قال مثقف عراقي أن القيادات الكردية تضطهد التركمان والكلدوآشوريين والأيزيدين وحتى الكرد الفيلية وتعتبرهم كرد من الدرجة الثانية والتجمعات السكانية العربية في مناطقها وتحاول صهرهم في بوتقتها ونظمها الاستبدادية فهذا لا يعني إنه يريد التشهير بهذه القيادات وإنما تنبيها أن تكون البرهان والدليل ولو لمرة واحدة أن الضحية لا تقلد جلادها، وإن عليها من أجل حضارة الشعب الكردي وسمعته أن تتعامل مع القوميات أو التجمعات السكانية في مناطقها بروح الالفة والحياة المشتركة المنسجمة وبما يعكس جدارتها في القيادة التاريخية لبلادها!
وإذا قال مثقف عراقي أن القيادات الكردية قد أدارت ظهرها للفلاحين والعمال الكرد وسائر الكادحين وتهالك بعضهم أو جلهم على جمع الأموال من السحت الحرام حتى صاروا من المليارديرات وهو الذي لم يكن قبل سنوات يمتلك (شروي نقير) وإنهم روجوا للفساد وصنعوا فيه مدرسة تضاهي مدرسة عائلة صدام وعدي الحكيم والتي لم يكن يعرفها الشعب الكردي المعروف بنظافته وبساطته وأمانته، وأن كردستان أضحت ملاذاً للصوص الذين سرقوا الأموال العامة ومنقولات وثروات العراقيين،وإن هذه القيادات كشرت عن أنيابها بوجه الفلاحين الذين كانوا يعانون وأطفالهم الجوع ليوفروا الخبز للبيشمركة، حيث صارت حياتهم تتردى يوماً بعد آخر وحجم البطالة بينهم في تصاعد بينما الأغوات الكرد بما فيهم الجحوش وعملاء صدام القدامى في تزايد وصعود! إذا قال مثقف العراقي ذلك لا يعني إنه حاقد وحاسد للبشوات الكرد الجدد على نعمهم وثرواتهم إنما هو عين راصدة ( وهكذا مهمته ) تفرح للشعب إذا اغتنى ونال حية كريمة وتغتم إذ بغت القيادة وانحرفت وظلمت وتجبرت!
وإذا قال مثقف عراقي أن نزعة التعصب القومي والعنصري قد صارت لدى بعض القادة الكرد حالة مرضية مستشرية،وإن تجارب التاريخ تظهر أن الطغم الحاكمة التي تبتلى بنزعة التعصب القومي والشراهة في تكديس الثروات وتشجيع الفساد وجمع الحواريين حولها من الأميين والمتخلفين والمنشدين للأصول الريفية والرعوية تتحول من طغم حاكمة دكتاتورية مستبدة إلى طغم توسعية لا تتورع عن شن الحروب التوسعية ضد جيرانها وإذا تحقق هذا في كردستان خاصة، وهناك مؤشرات على شراسة منفلتة من أجل تشريع قانون للنفط يبيح لحكام الأقاليم التعاقد على استثمار النفط، إي نهب ثروات البلاد في تسابق محموم مع القيادات العربية والتركمانية الفاسدة ما يعني تجميع ثروات هائلة تغري بنزعات شن الحروب والهيمنة على مناطق من دول مجاورة تضيع مستقبل الكرد وتدمير حياتهم من أجل حفنة من الزعماء الطموحين الذين لا يشبعون لا من سلطة ولا من ثروة وتعرض العراق لأخطار هائلة بالإضافة لبقاء حدوده متحركة متفجرة وغير آمنة! إذا قال مثقف ذلك فإنه لم يقل سوى واجبه في التنبيه للأخطار الكبيرة وهذا في مصلحة الكرد والعرب والتركمان والكلدو آشوريين وغيرهم ومن لا يريد أن يسمعه فليذهب ويجرب حظه وسنارته في مياه الجحيم!
وإذا قال مثقف عرقي إن القيادات الكردية تقمع المثقفين والمفكرين الكرد الأحرار وتزج بهم في المعتقلات والسجون وقد تعرضهم للتصفيات الجسدية لمجرد أنهم جاهروا بآرائهم حول شخوص ومظاهر الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمجتمع الكردي،( كما سجلتها وثائق الأمم المتحدة ) وإنهم أبعدوا وعزلوا خيرة المثقفين والمبدعين الكرد عن نشاطاتهم الحرة أو عن الوظائف التي ينبغي أن يتبوؤها هم لا غيرهم، وإن من يسيطر على مفاصل الثقافة في كردستان هم في معظمهم ممن خدموا وبرزوا وتخضرموا في مختلف العهود، وهي إعادة مملة وأليمة للجهاز البيروقراطي الحزبي الذي جربه حزب البعث وقاده لمصيره المعروف وجربه اللينينيون والستالينيون في الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الآفلة، فلم يحصدوا إلا الثقافة الرديئة والضلال الكبير! إذا قال مثقف عراقي ذلك فهذا لا يعني إنه يتدخل في شئون كردستان ( وهل هو غريب إذا كنا ما نزال في دولة واحدة؟ )هذا مع إن ما يقوله هو واجب أدبي وأخلاقي إزاء رفاق القلم والكلمة الحرة النزيهة ووقوف إلزامي مع حق التعبير وحقوق الإنسان!
وبالطبع هناك فرق كبير بين إبداء الرأي في ما يكتنف الواقع الثقافي في كردستان من ظواهر سيئة وضارة والدعوة لتجاوزها ومعالجتها وما بين التدخل العملي ومحاولة خلق بدائل ثقافية أخرى له على الأرض أو محاولة ترتيب واقع ثقافي مواز له ومصمم وفق أغراض سياسية وأيدلوجية معينة وهذا أمر لا يقره أحد، إذ يبقى للكرد أنفسهم حق تنظيم شئونهم الثقافية وقد كانوا محقين منذ عهد بعيد حين رفضوا أن يختزل البعثيون ثقافتهم وتراثهم القومي في مديرية عامة (خاصة بشئون الثقافة الكردية في وزارة الإعلام ) لذا فإن عليهم بنفس القدر أن يحاذروا من محاولة ترتيب ثقافة القسم العربي من العراق وفق أجندة أو أغراض أيدلوجية أو سياسية معروفة ومفضوحة!
وهذا يقتضي عدم السعي لشراء أقلام مأجورة عراقية أو عربية تمنحهم صفحات هزيلة من المديح الكاذب والتزكية المزيفة وهم يعرفون أن من يتنكر لحقوق ومصالح شعبه لا يمكن له أن يكون حقيقياً وصادقاً في تبنيه لحقوق ومصالح شعب آخر!أو إقامة مهرجانات ومؤتمرات كرنفالية في كردستان كتلك التي يقيمها صاحب المدى وهو سمسار ثقافة عريق يهدف من وراء مهرجاناته إضافة لجني الأموال محاولة التسيد على المثقفين لما يعانيه من مركب نقص، وهكذا فعاليات هي ليس فقط لا تحقق شيئاً مفيداً للشعب الكردي بل إن الكثير ممن يعودون منها يسخرون ويضحكون منها ومما دار فيها ومن مزاج منظمها في تقريب هذا واستبعاد ذاك بما يجره من عداوت، حتى إن بعضهم في انفعاله يكتب متهجماً على الشعب الكردي. لقد كان من الأولى صرف هذه الأموال على المثقفين والمبدعين الكرد الذين ما زالوا في عوز وخصاصة تمنعهم من الإبداع أو بناء مدارس لأطفال كردستان الذين ما زالوا يدرسون في بنايات بدائية!
وإذا كانت الدوائر الثقافية في كردستان تريد توثيق العلاقات وتعميقها بين الثقافة الكردية والثقافة العراقية فهذا شيء رائع وضروري، ولكن ينبغي أن تعهد بهذه المهمة الطيبة والصعبة بنفس الوقت لمثقفين كرد مرموقين معروفين في الساحة الكردية ليقوموا بلقاءات وحوارت وزيارات وندوات جادة يشترك فيها اتحاد الأدباء العراقيين ونقابة الصحفيين أو التجمعات الأدبية المرموقة أو دوائر موثوقة في وزارة الثقافة العراقية للوصول إلى أرقى صيغ التعاون والعمل المشترك القائمة على أسس موضوعية وعلمية ونوايا حسنة! إن جذب المثقفين المناصرين للقضية الكردية لا يمكن أن يتم بولائم الخرفان المشوية وزجاجات الويسكي في الفنادق الفخمة، والقيادات الواثقة من نفسها ومن مواقفها لا تحتاج للدعاية والصخب الإعلامي، فهي تعرف قبل غيرها أن ما لديها من صفحات بيضاء لن تضيف لها الخرفان المشوية وزجاجات الويسكي إلا الشكوك والريب، وإذا كانت لديها صفحات سوداء فإن كل ويسكي العالم لن يحيلها إلى صفحات بيضاء! ومن يريد المغالطة في هكذا تجربة عليه مراجعة سجلات المرابد الصدامية!
واليوم وبعد هذه الرحلة الطويلة الأليمة التي سقط فيها الكثير من الشهداء وأهرقت فيها الكثير من الطاقات والدماء والحسرات والدموع من الناس البسطاء ومن المثقفين عموماً ومن الكتاب والشعراء والفنانين ينتهي الحال إلى هذا الحال! هل يشعر هؤلاء المثقفون بالندم لما أعطوا للقضية الكردية من أرواحهم ودمائهم ومداد أقلامهم؟ لا أعتقد ذلك! فنضالهم كان من أجل العدالة ومن أجل الحقيقة ومن أجل الضمير! إنما هم وكما أتلمس من مشاعر الكثيرين ممن أعرفهم يشعرون بالحزن والأسى لما آلت إليه اليوم طموحاتهم وآمالهم في أن يتحقق للكرد نظام ديمقراطي متعقل تقدمي يعتمد على الفقراء والكادحين وعلى أصحاب الجدارة والكفاءات ويعمل على تحقيق حياة حضارية ويساعد كثيراً على تحقيقها في العراق كله، إنهم يشعرون بخيبة أمل بالقيادات الحالية التي لم تستطع أن تخرج من شرنقتها القومية والعشائرية والعائلية، وتتحول إلى قوة ذات منحى إنساني وركائز طبقية واجتماعية وإنسانية رحيبة. ولو وصلت إلى ذلك لما رغبت بالانفصال عن العراق ولوجدت في الأسس الإنسانية القاعدة الروحية والمادية الصلبة لوحدة العرب والكرد والتركمان واالكلدوآشوريين واليزيدين في عراق واحد فدرالي ديمقراطي تعددي !
يسجل المثقف العراقي انتقاداته وأحكامه انطلاقاً من قيم العدالة التي يجد نفسه مسؤولاً عن حمايتها وإبقائها حية فعالة طالماً ظل في حومة الثقافة وسوحها الصعبة المريرة والخطرة وهو يقف على نفس المسافة بين الأطراف جميعها وبين القضايا المطروحة جميعاً،ويظل ينتقد القادة العرب إذا غمطوا حق الكرد أو أبناء القوميات الأخرى وبنفس الوقت ينتقد قادة الكرد وقادة القوميات الأخرى إذا أرادوا غمط حق العرب أو القوميات الأخرى !
إن معظم النقد الذي يوجهه مثقفون عراقيون هو رائده حبهم للشعب الكردي!
فهو شعب طيب وحيوي و يستحق أكبر فضاء ممكن من الحرية والازدهار في نظام ينبثق من إرادته الأصيلة الحرة أقولها لا مجاملة إنما عن تجربة ومعايشة، فلي صداقات مع الكثير من كتابهم ومبدعيهم والناس الأخيار أعتز بها كثيراً وأنا واثق أنهم سيأخذوا صراحتي على محمل الحرص عليهم وعلى مستقبلهم الذي هو جزئ أساسي من مستقبلنا جميعاً وإني قلت مثل هذا بل ما هو أمر وأعمق منه في قيادات عربية لا من منطلق كرهها بل منطلق حبي لشعبي وللعراق الذي هو وطننا جميعاً وآمل أن يبقى كذلك!
التعليقات