في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، أنطفأ الملك حسين باني الدولة الحديثة في الأردن ورجل الدولة الذي قاوم بالأفعال وليس بمجرد الكلام والشعارات الفارغة، كما فعل غيره، المشروع الإسرائيلي وكل المشاريع الأخرى التي تستهدف تفتيت المنطقة العربية لمصلحة دويلات ذات طابع مذهبي وطائفي. لم يكن الحسين، رحمه الله، مجرد زعيم حاول أدخال بعض المنطق إلى العقل العربي فحسب، بل كان أيضا قبل أي شيء آخر رجلا يتمتع بالقدرة على أستشفاف المستقبل والسعي إلى ربط العرب به. نجح أحيانا وفشل في أحيان أخرى. نجح داخليا عندما طور المملكة الأردنية وجعل منها نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دولة عربية تحترم مواطنيها كونها تحترم نفسها وتحترم الأنسان أوّلا. وفشل عربيا عندما لم يستطع المساهمة في تحويل المنطقة العربية إلى واحة سلام وأستقرار بعيدا عن التطرف والتخلف.
نعم، قدّم الملك حسين الكثير للأردن وسعى إلى تقديم الكثير للعرب الذين تنكروا له في معظم الأحيان مفضلين الهزيمة على كلّ ما عداها وأعتبروها أنتصارا. نجح الملك أردنيا وفشل عربيا، إلى حد ما، نظرا إلى أنه لم يستطع وضع العرب على خط التقدم والتطور والديموقراطية بعيدا عن العقد المستحكمة بالشارع. حاول تجاوز العقد غير آبه بما يقال عنه في الشارع. حاول بكل بساطة تحكيم العقل والمنطق والأنتصار بهما على الغرائز بدل أستخدام الغرائز لخدمة أهداف سياسية كا فعل غيره.
كان الملك حسين قائدا حقيقيا لا يرضخ للشارع وللتخلف الذي يمثله الرعاع. كان يقود الشارع بدل أن ينقاد له. كان زعيما أستثنائيا يرفض أن يكون أسير الشعارات والهتافات وما يسمى quot;الجماهيرquot;. رفض حتى أقامة تمثال له وسط عمان. كان انسانا قبل أي شيء آخر. كان أنسانا يحب الحياة والناس وأن يكون على تواصل مستمر مع أبناء شعبه والعرب الآخرين. كان بكل بساطة يحاول أن يتعلم يوميا من الحياة ومن التقدم الذي يتحقق في العالم محاولا نقله إلى الأردن وإلى المنطقة العربية... أذا أمكن. كان يسعى إلى نقل العرب من الهزائم المستمرة والمتتالية والأنتصارات الوهمية إلى مرحلة تحقيق الأنتصارات. والأنتصارات لا تكون سوى على النفس أوّلا وهو ما لم يفهمه كثيرون من حكام المنطقة الذين عايشوا الملك حسين وكانوا بمثابة أضحوكة بالمقارنة مع ما كان عليه الرجل من أنسانية وتواضع ونبل وشجاعة وعمق في التفكير. مكنت هذه الصفات الهاشمية الراحل الكبير من التعاطي مع أولئك الصغار الذين وصلوا إلى السلطة عبر الأنقلابات ومن تحمل تفاهاتهم وتخلفهم بكل رحابة صدر في أنتظار اليوم سيرحلون فيه عن مواقعهم موفرين مزيدا من المآسي على شعوبهم وعلى العرب عموما. لا مجال هنا لذكر الأسماء ولكن تكفي العودة بالذاكرة إلى الحسين جالسا إلى جانب هذا الرئيس العربي أو ذاك، وهو يسايره، كي يتخيّل المرء حجم الأساءات التي لحقت بالملك الراحل، أضافة إلى مدى قدرته على التحمل أيضا...
في ذكرى مرور عشر سنوات على رحيل الملك حسين، لا يمكن ألا العودة إلى الظلم الذي تعرض له الرجل وكيف ضاعت القدس ومعها الضفة الغربية بسبب المزايدات العربية وكيف كان يمكن حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن لولا الموقف الباسل للجيش العربي (الجيش الأردني) الذي تصدى في العام 1970 لمؤامرة quot;الوطن البديلquot; فأنتصر لفلسطين والفلسطينيين غصبا عن المزايدين من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الذين كانوا يتاجرون بالقضية. وقتذاك، كان اليسار الفلسطيني ممثلا بجورج حبش ونايف حواتمه ومن على شاكلتهما يزايد، كما الحال الآن مع الأسلاميين، من أمثال خالد مشعل ورمضان شلح، الذين يخدمون أسرائيل من حيث يدرون أو لا يدرون عن طريق الصواريخ والعمليات الأنتحارية التي حلت مكان شعارات quot;كل السلطة للشعبquot; أو عمليات خطف الطائرات.
يبقى فوق ذلك كله أن الملك حسين كان رجل المستقبل المختلف. كان يفكر في نظام سياسي متطور يستند إلى حياة حزبية عصرية منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي. أدّت الظروف الداخلية والأقليمية إلى تأجيل العمل بالتجربة حتى تشرين الثاني- نوفمبر من العام 1989. جاء قرار العودة إلى الانتخابات بعد قرار فك الأرتباط مع الضفة الغربية صيف العام 1988 في وقت كان العالم يشهد تحولات كبيرة. كان الملك حسين بين القلائل من زعماء المنطقة الذين أدركوا معنى بدء أنهيار الأتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة. هل صدفة أن موعد الأنتخابات النيابية الأردنية جاء بفارق أربع وعشرين ساعة عن موعد تاريخي تمثّل في سقوط جدار برلين؟
كان الحسين يتطلع إلى المستقبل فعلا. لذلك لم توقع المملكة الأردنية الهاشمية أتفاق سلام مع أسرائيل ألا في تشرين الأوّل - أكتوبر من العام 1994بعد التوصل إلى أتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة أسرائيل في العام 1993. كان التوقيت مناسبا بكل المقاييس. لو لم يوقع الأردن الأتفاق لكان لا يزال يسعى إلى الآن خلف حقوقه في الأرض والمياه ولكان خدم مشروع quot;الوطن البديلquot; للفلسطينيين الذي لا يزال يراود عددا لا بأس به المسؤولين الأسرائيليين. خدم الأردن الفلسطينيين عندما أنقذهم من نفسهم في العام 1970. وخدمهم بقرار فك الأرتباط الذي وضع اللبنة الأولى لقيام الدولة الفلسطينية التي قد ترى النور يوما. وخدمهم برسم حدوده مع أسرائيل والضفة الغربية، أي الدولة الفلسطينية المنشودة، بموجب أتفاق السلام.
أسس الملك حسين لدولة المؤسسات. هذه الدولة سمحت بأن يكون الانتقال إلى عهد جديد على رأسه الملك عبدالله الثاني عملية سهلة وطبيعية. أختار الحسين من هو مؤهل أكثر من غيره لخلافته. وبعد عشر سنوات على غيابه، يتبين كلّ يوم أنه لم يخطئ، بل أتخّذ القرار الصائب. أخطأ كثيرون في حقه عندما كان ملكا، لكنه لم يخطئ في حق أحد ولم يسء إلى أحد. جاء دور التاريخ لينصفه بعد كل الظلم الذي تعرض له. كان بالفعل ملك العرب الشرفاء حقا. كان ملكا يحلم بمستقبل أفضل للعرب، مستقبل يقوم على السلام والتسامح والعدالة والأرتباط بكل ما هو حضاري في العالم. متى يرتفع معظم العرب إلى مستوى الملك حسين، الرجل الذي لم يدركوا بعد مدى أهميته؟ أنهم معذورون في ذلك. كان الفارق بينالفكر الطليعي المتقدم للملك حسين وما يفكر به الشارع العربي يزيد على عشرين عاما. المشكلة أن الهوة تزداد مع الوقت بدل أن تتقلّص!