فى الوقت الذى كان المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية يصدر مذكرته لقضاة المحكمة بشأن توقيف عمر حسن البشير فى 14 يوليو 2008 كان البشير يرقص على جثث ضحاياه فى دارفور، وقبل اصدار المحكمة لقرارها التاريخى يوم 4 مارس بساعات كان البشير يلوح بعصاه فى الهواء قائلا على القرار المتوقع يبلوه ويشربوا ميته، ولكن الكلام ليس عليه جمرك كما يقولون.لقد جاء القرار كحدث تاريخى مبهج فى مسار العدالة الدولية،ورغم ما يقوله البشير وصبيانه فالحقيقة أن العد التنازلى لنهاية نظامه قد بدأ. وحول تداعيات هذا القرار هناك عدد من الملاحظات:
اولا: عقب القرار صرح وزير العدل السودانى بأن البشير لم تنتخبه المحكمة الجنائية أو مجلس الأمن حتى تحاسبه، والسؤال هل يستطيع شعبه أن يحاسبه على جرائمه؟. الحقيقة أن البشير لم ينتخبه الشعب السودانى أيضا، ولا يستند إلى شرعية داخلية وجاء إلى الحكم عبر الانقلاب على حكومة شرعية منتخبة هى حكومة الصادق المهدى فى يونيه عام 1989، ومن حسن حظه ان النظام الدولى لا يحاسب الرؤساء على كيفية وصولهم للسلطة فى بلادهم، والمفروض أن هذه هى مهمة الشعوب،ولكن الشعوب فى الواقع مغلوب على امرها ومحكومة بالحديد والنار. النظام الدولى يحاسب فقط على الالتزامات المتعلقة بالقانون الدولى، وقد جاء قرار المحكمة ليسقط الشرعية الدولية عن نظام البشير، ومن ثم فأن البشير لا يملك حاليا لا شرعية محلية ولا شرعية دولية، وانما يتخذ شعبه باكمله رهينة فى مقابل احتفاظه بالسلطة وافلاته من العقاب.
ثانيا: فى كل مرة تقترب العدالة من احد الطغاة نسمع تحذيرات وتهديدات زملاءه من الفاشيين بأن ما يحدث يقوض السلام ويهدد الاستقرار، ولا نعرف عن اى سلام يتحدثون؟ لقد حول البشير السودان خلال عقدين من الزمن إلى بلد للاشباح، وكما يقول المدعى العام للمحكمة فانه قبل اسبوعين فقط قصفت طائرات البشير دارفور فقتلت الاطفال وهجرت الالاف، وهناك 5 ملايين شخص يموتون ببطء فى معسكرات اللجوء.وحسب هيومن رايستس فيرست أدى القصف الحكومى لدارفور إلى تشريد 90 الفا من المدنيين فى اكتوبر 2008 وحده، وأن الجيش السودانى مستمر فى قصف قرى شمال وغرب دارفور، وتعرض 170 عاملا بالمساعدات الإنسانية للخطف ولقى 11 غيرهم حتفهم وهم يمارسون مهامهم لإنقاذ الضحايا فى الشهور الماضية.
إن ازمة دارفور هى اسوأ ازمة إنسانية فى العالم حاليا كما تقول الأمم المتحدة، لقد قتلت قوات البشير زهاء 300 الف شخص وشردت حوالى 2 ونصف مليون أخرين حسب احصاءات الأمم المتحدة أيضا، ودك سلاح الجو السودانى مئات القرى فى دارفور، وارتكبت قوات البشير الفظائع من قتل واغتصاب وتجويع ونهب وسلب وتدمير وسائل العيش للمدنيين وطرد الامنيين من منازلهم، ومن قبل و تحت حكم البشير وعلى مدى 18 عاما فى جنوب السودان تم حرق عشرات القرى فى الجنوب ليسقط اكثر من 3 مليون ضحية هذه الحرب العنصرية.إن التهديد بالمزيد من الضحايا هو ابتزاز وحشى، وقد حان الوقت لوقف هذا العبث المخجل.
لقد كان تدخل المجتمع الدولى حاسما ومفيدا فى توفير الحماية للاكراد وللعراقيين فى الجنوب، وتدخل مجلس الامن مهم فى وقف كذب وخداع البشير، ولقد حان الوقت بالفعل لمجلس الامن بأن يفرض حظرا لطيران قوات البشير فوق دارفور وفوق جنوب السودان تمهيدا لإستفتاء 2011 فى الجنوب، ولا سيما لو شمل هذا الاستفتاء منطقة دارفور أيضا لكى تأخذ فرصتها فى تقرير مصيرها.
إن قرار المحكمة فى صالح دارفور والجنوب، ولن يوافق البشير على إنفصال جنوب السودان إذا قرر شعبه ذلك فى 2011، وأنما سيعيد عجلة الحرب من جديد، ولكن تدخل المجتمع الدولى سيجعل الجنوب يقرر مصيره بعيدا عن إرهاب بندقية البشير، وكذلك سيخلق الظروف الملائمة لتقرير مصير دارفور أيضا.
ثالثا: فى كل الازمات يثبت النظام الرسمى العربى بانه لا انسانى ولا اخلاقى، فلم نسمع لهذا النظام حتى ولو مجرد احتجاج على القتل والاغتصاب والتطهير العرقى والابادة الجماعية التى حدثت فى دارفور وفى جنوب السودان، ولا عن مجازر صدام ضد الاكراد والشيعة، ولكن ودائما يبذل النظام الرسمى قصارى جهده لحماية الطغاة. هل سمعتم عن كلمة نقد واحدة وجهت للبشير او لصدام من قبله؟ هل سمعتم عن تقرير صادر عن جامعة الدول العربية يدين هذه الجرائم اللانسانية التى ارتكبتها القوات السودانية؟ هل سمعتم عن بعثة تقصى حقائق زارت هذه الدول للإستماع إلى انين الضحايا والمشردين وعادت بتقرير محترم كما فعلت المنظمات الحقوقية الدولية؟، هل سمعتم عن عمل إنسانى قام به النظام الرسمى العربى لصالح ضحايا الطغاة؟ هل سمعتم عن جهد إنسانى قامت به جامعة الدول العربية لصالح ملايين المشردين فى دارفور؟ هل سمعتم عن مؤتمر لاعمار دارفور كما حدث فى غزة؟ هل سمعتم عن منظمات إسلامية تعمل بجانب المنظمات الغربية فى انقاذ البؤساء والمشردين فى دارفور؟ هل سمعتم عن صراخ فى الفضائيات من آجل ضحايا دارفور؟. فقط يبذلون كل جهدهم عندما تقترب العدالة من الطغاة العرب.
إنه باختصار نظام يعادى الإنسان وثقافة تعادى الإنسان، ويقف خصما ضد العدالة،ويحمى الطغاة،ويتصرف بعنصرية تجاه السود الافارقة.
اما المستبدون الافارقة الذين ساندوا البشير فقد وصف سلوكهم المخزى فى النيويورك تايمز،المناضل الجنوب افريقى الحائز على جائزة نوبل للسلام، ديزموند توتو بأنه مخجل، ووصف مذكرة اعتقال البشير بانها لحظة فوق العادة لأهل السودان ومناسبة تاريخية، وقال توتو على القادة الأفارقة مساندة اعتقال البشير لإرتكابه جرائم حرب.
رابعا: لقد ادمن نظام البشير الكذب وبرع فى التلاعب بالمجتمع الدولى، وكما يقول بيان لمنظمة هيومن رايتس فيرست quot; من جديد تتحدث الحكومة السودانية عن السلام مع الدبلوماسيين والصحفيين فيما تشن حربها فى دارفورquot;، وكما يقول مايكل جيرسون المحلل السياسى وكاتب مقالات الرئيس جورج بوش quot;على مدى عقود برع البشير بالتلاعب بالمجتمع الدولى والهاء حلفاءه المتعطشين للنفط ليتمكن من استكمال الإبادة الجماعية، ولا شك أن مذكرة المحكمة الجنائية هى فرصة لتغيير قواعد اللعبة، وتحميل البشير المسئولية عن ارتكاب الجرائم الجماعيةquot;.
هل ادل على كذب البشير من أن الأمم المتحدة تقدر الضحايا فى دارفور ب 300 الف فى حين يقول هو 9 آلاف فقط، من نصدق البشير أم الأمم المتحدة وعشرات المنظمات الحقوقية المحترمة؟.أن الامر لا يحتاج إلى منظمة دولية لمعرفة الحقيقة،إن اصغر منظمة حقوقية محلية لو اعطيت الفرصة تستطيع حصر الضحايا بسهولة وبقدر كبير من الدقة، فهذه القبائل تعرف بعضها البعض وتستطيع رصد ضحاياها بسهولة.
البشير يشغل مناصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس حزب المؤتمر الحاكم والقائد الاعلى للقوات المسلحة ويتحكم فى كل صغيرة وكبيرة فى السودان، فهل القوات التى دكت قرى دارفور جاءت من اسرائيل؟،وهل تسليح الجنجويد تم فى روسيا؟،وهل على قشيب واحمد هارون اعضاء فى حكومة النرويج؟.
إن اسم دارفور مشتق من كلمتى دار والفور،أى انها دار قبائل الفور، كبرى القبائل التى تسكن هذه المناطق، ومع هذا عمل البشير على التطهير العرقى والطرد الجماعى لقبائل الفور والمساليت والزغاوة بما فى ذلك المدنيين الذين لم يشتركوا فى القتال، أى انه يريد طرد سكان من وطنهم الذين يقطنون فيه منذ مئات وربما آلاف السنيين.
خامسا: اطلقت زمرة البشير جملة تهديدات للسودانيين لإرهابهم وتخويفهم من التعامل مع العدالة الدولية، فالطاغية على استعدا للتضحية بآخر فرد من شعبه فى سبيل بقاءه فى السلطة، حيث هدد رئيس المخابرات السودانية صلاح غوش ب quot; قطع يد كل من يحاول المشاركة فى تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدوليةquot;، وقال المتحدث باسم الجيش السودانى quot; القوات المسلحة ستتعامل بالحسم مع كل من يتعامل مع المحكمة الجنائية الدوليةquot;، واقسم وزير العدل على الملأ بان الحكومة لن تتعامل مع المحكمة، وسيروا المظاهرات المصطنعة والقوا الكلمات الخشبية المقززة ليرسلوا رسالة للعالم بأن السودانيين فى حكم الدروع البشرية فداءا للبشير وعصابته.
سادسا: جاء القرار ليظهر فشلا جديدا لحكم الإسلاميين،فالبشير الذى اطلق على إنقلابه ثورة الإنقاذ الإسلامية وتبنى وشريكه السابق فى الحكم حسن التراب ما سمى بالأممية الإسلامية، لحق بحكم الجماعات الإسلاموية الفاشية والفاشلة فى افغانستان ونيجيريا وباكستان وغزة والصومال...الخ، فهذه الجماعات لم تحول بلدانها إلى بؤر ظلامية فحسب ولكنها تركتها خرابات ينعق فيها البوم والغربان، إن انجازاتها الوحيدة هى الحروب والدمار والخراب والقتل والترويع.
سابعا: ارجو ان يكف الاعلام العربى عن ترديد العبارات السمجة عن نهب ثروات الدول الإسلامية فما هى الثروات التى يتحدثون عنها فى السودان وافغانستان والصومال وباكستان؟ ولماذا لم تستفيد هذه الشعوب البائسة الجائعة من هذه الثروات التى يتحدثون عنها؟، وما هى الثروات التى نهبها الغرب من الصومال وافغانستان والسودان وباكستان وحتى من العراق؟.أما الحديث عن العدالة المزدوجة فهو كلام ممجوج لتبرير الإفلات من العقاب وتضليل العدالة وإستهزاء بدماء ملايين الضحايا.
منحسن حظ البشير ان المحكمة لا تقر عقوبة الإعدام، ومن حسن حظه إنه لم يقع فى ايدى شعبه كما حدث لصدام... فالبشير يستحق اقصى عقوبة على ما اقترفته يداه بحق شعبه وبحق الإنسانية.. ولا عجب كذلك أن يؤيد البشير صدام فى غزوه للكويت وحماس فى سطوها على غزة وحزب الله فى سيطرته على لبنان، ويحتضن بن لادن لسنوات فى السودان، وتنطلق محاولة إغتيال مبارك من اراضيه.
قرار المحكمة يوم تاريخى للعدالة الدولية،ونامل أن يكون بداية لسودان جديد أو لظهور عدة دول مستقرة تنطلق من رحم الأزمة.
مدير منتدى الشرق الاوسط للحريات
[email protected]
قرار المحكمة يوم تاريخى للعدالة الدولية،ونامل أن يكون بداية لسودان جديد أو لظهور عدة دول مستقرة تنطلق من رحم الأزمة.
مدير منتدى الشرق الاوسط للحريات
[email protected]
التعليقات