الآن وقد أدى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة اليمين الدستورية مفتتحا ولايته الرئاسية الثالثة بوعد بتعميق المصالحة الوطنية، هل يمكن القول أن ذلك يبعث بعض الأمل في تغيير نحو الأفضل في الجزائر؟ قبل كل شيء، بغض النظر عن صحة الأرقام المتعلقة بنسبة المشاركة في الأنتخابات الرئاسية الجزائرية أو بتلك التي حققها بوتفليقة والتي فاقت التسعين في المئة، لا شك أن الرئيس الجزائري فاز حقيقة في الأنتخابات التي أجريت في التاسع من أبريل- نيسان الجاري نظرا ألى أمتلاكه شعبية كبيرة أولا وألى أن لا منافس جديا له ثانيا وأخيرا. قد تكون نسبة المشاركة مبالغا فيها ولكن أن يحرز بوتفليقة نسبة تزيد على تسعين في المئة من أصوات المقترعين، فهذا أمر أكثر من طبيعي، خصوصا متى يكون في مقدم منافسيه شخص مثل السيدة لويزة حنون تمثل حزبا صغيرا quot;تروتسكياquot;. بالكاد يتذكر العالم لينين، فكيف الأمر بتروتسكي الذي كان على يسار الزعيم الشيوعي بعد أنتصار الثورة البولشفية في العام 1917؟
من الناحية العملية، كان بوتفليقة المرشح الوحيد في أنتخابات الرئاسة. كان الآخرون الذين نافسوه مجرد أدوات زينة في بلد أستعاد بعض عافيته بفضل الرئيس الجزائري الذي أستفاد ألى أبعد حدود من أرتفاع أسعار النفط في السنوات القليلة الماضية بما مكّن الجزائر من أيفاء ديونها الخارجية ومن تنفيذ مشاريع تنموية وضخ سيولة في السوق. كانت السنوات العشر الأخيرة في الجزائر سنوات خير مقارنة مع السنوات العجاف التي تلت الأضطرابات التي أندلعت في اكتوبر من العام 1988 والتي أنهت عمليا عهد الرئيس الشاذلي بن جديد الذي أضطر لاحقا ألى الأستقالة بعد رفض العسكر قبول نتائج الأنتخابات في العام 1992، وهي الأنتخابات التي فاز فيها الأسلاميون بفارق كبير. ولكن ما الذي سيحصل بعد سنتين أو ثلاث سنوات في حال أستمر سعر برميل النفط عند حدود نحو خمسين دولارا؟
لا يمكن القول أن أرتفاع أسعار النفط كان السبب الوحيد الذي ساعد بوتفليقة في أن يتحول ألى أشبه بمنقذ للجزائر. يعود الفضل الأساسي في التحسن الكبير الذي طرأ على الوضع الداخلي، ألى المؤسسة العسكرية والأمنية التي شنت حربا لاهوادة فيها على التطرف الديني والأرهاب. أستطاعت المؤسسة العسكرية والأمنية خوض حرب طويلة النفس على الأرهاب والعصابات المسلحة التي تتستر بالدين والتي سمحت لنفسها بأرتكاب مجازر في أنحاء متفرقة من البلاد وضرب المؤسسات العامة بهدف تدميرها عن بكرة أبيها. كانت المؤسسة العسكرية والأمنية تدرك منذ البداية أن الحرب على الأرهاب ستكون طويلة ومضنية لكنها قبلت التحدي وأنقذت الجمهورية وحالت دون مزيد من التدهور على الصعيدين الأقتصادي والأجتماعي.
لا شك ان وصول بوتفليقة ألى الرئاسة في العام 1999 بدعم من العسكر ومن بقايا المؤسسة البيروقراطية الحاكمة خلال عهدي بومدين والشاذلي، أي ما يسمى حزب جبهة التحرير الوطني، كان بمثابة عودة الحياة ألى مؤسسة رئاسة الجمهورية. وفّر بوتفليقة أفقا سياسيا للحرب على الأرهاب. وهذا أمر مهم جدا. أمتلك الرئيس الجزائري ما يكفي من الدهاء لصياغة خطاب سياسي معتدل ظاهرا. ساعد هذا الخطاب، ألى حد كبير، في تحقيق نوع من المصالحة الوطنية أنضم أليها أسلاميون معتدلون أرادوا الأستفادة من البحبوحة الأقتصادية وحال الأنفراج التي وفرتها أسعار النفط المرتفعة. ما لا يمكن تجاهله أن عهد الشاذلي بن جديد دخل في أزمة داخلية عميقة ذات طابع أجتماعي بسبب الهبوط الكبير في أسعار النفط في النصف الثاني من الثمانينات.أنفجر الوضع في المدن الجزائرية في أكتوبر من العام 1988 بعدما ضاقت سبل الحياة بالمواطن العادي وتفشت البطالة على نحو لا سابق له. وجاء أنتخاب بوتفليقة رئيسا لولاية ثالثة في السنة 2009 ليعكس تعلق المواطن العادي بالأستقرار النسبي الذي وفره الرئيس الجزائري في السنوات العشر الأخيرة. أنه استقرار مكّن بوتفليقة بفضل خبرته السياسية الطويلة من تحقيق بعض حلمه المتمثل بأن يكون هواري بومدين آخر.
أسس عهد بومدين الذي أمتد من العام 1965 ألى العام 1980 للجزائر الحديثة التي تتحكم بها المؤسسة العسكرية الأمنية والبيروقراطية الثقيلة. نجح في توفير ثقل خارجي للجزائر كان بوتفليقة من رموزه بصفة كونه وزيرا للخارجية في تلك الحقبة. كانت عائدات النفط والغاز تغطي كل الأخفاقات. كان الأخفاق الأول لعهد بومدين الذي أمسك بالبلد بيد من حديد في مجال التعليم. في عهده، نسي الجزائريون الفرنسية ولم يتعلموا العربية. وكان الفشل الثاني في المجال الزراعي والثالث على صعيد الصناعة. وضع بومدين الأساس لصناعة ثقيلة من دون التفكير ولو للحظة في كيفية تصريف ما ستنتجه المصانع الجزائرية. كان هناك فشل في كل مجالات التنمية. لكن الدور الأقليمي للجزائر والعائدات من النفط والغاز ساهمت في تغطية الفشل... ألى أن حصل أنفجار العام 1988.
الأكيد أن الجزائريين أنتخبوا هذه المرة بوتفليقة رئيسا عن قناعة. ولكن يبقى السؤال هل أستفاد الرجل من تجربة بومدين؟ هل عمل في السنوات العشر الأخيرة على وضع الأسس لدولة حديثة قادرة مستقبلا على تنويع أقتصادها بدل البقاء أسيرة أسعار النفط والغاز... ألتي عادت تتجه في الأشهر القليلة الماضية ألى الهبوط؟ هل يدرك أن تركته ستكون ثقيلة في ضوء الزيادة الكبيرة في عدد السكان وهجمة الريف على المدن وأستمرار البطالة وزيادة التطرف الديني؟ أم يعتقد أن في الأمكان تكرار تجربة بومدين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي في السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين؟
بأختصار، أن أنتخاب بوتفليقة يبعث على الأمل، الأمل بالتأسيس لمرحلة جديدة في الجزائر... في حال الأستفادة من تجارب الماضي القريب بما في ذلك أن الحرب مع الأرهابيين يمكن أن تعود ألى الواجهة في أي لحظة. هل أستفاد بوتفليقة من تجربة الجزائر أم أن كل همه أن يبقى رئيسا وأن ينتقم من الظلم الذي لحق به عندما لم يستطع خلافة بومدين في العام 1980؟ وقتذاك، أختار الجيش أحد ضباطه لخلافة بومدين مستبعدا بوتفليقة ورجل المؤسسة الحزبية محمد صالح يحياوي. هل يعي بوتفليقة الآن أن مشاكل الجزائر لا يحلها الدور الأقليمي القائم على أبتزاز المغرب عن طريق نزاع الصحراء الغربية الأستمرار في أغلاق الحدود بين البلدين وأن هذه اللعبة تجاوزها الزمن كما تجاوزتها الأحداث؟ هل يعي أن هناك مشكلة جزائرية أسمها البرامج التربوية والنمو السكاني وايجاد فرص عمل للشباب الجزائري والحرب على الأرهاب قبل أي شيء آخر وان هناك فرصا عديدة يمكن الأستفادة منها عندما تتخلى الجزائر عن وهم الدور الأقليمي؟ ربما يعي بوتفليقة ذلك وربما لا. ما يدفع ألى التشاؤم الأحداث الأخيرة التي شهدتها الصحراء الغربية ودفع الجزائر عناصر من جبهة quot;بوليساريوquot; التابعة لها ومساندين أجانب للجبهة للدخول ألى منطقة منزوعة السلاح وأستفزاز القوات المسلحة المغربية. هل تستمر عملية الهروب ألى الأمام، أم يقدم عبد العزيز بوتفليقة على خطوة تعكس وجود رغبة جدية في التغيير من منطلق أن ما فشلت فيه الجزائر في منتصف السبعينات وطوال عقد الثمانينات من القرن الماضي في الصحراء الغربية لن ينجح ولا يمكن أن ينجح في السنة 2009. بكلام أوضح، أن طريقة التعاطي مع المغرب ومع قضية الصحراء تحديدا ستظهر ما أذا كانت الجزائر قادرة على تجاوز عقد الماضي وتفادي البقاء تحت رحمة صعود أسعار النفط والغاز وهبوطها! أنه الأمتحان الأول الذي يواجه بوتفليقة في ولايته الثالثة أضافة بالطبع ألى تحديات الداخل. من يدري، ربما تحصل أعجوبة فيتغيّر رجل في الثانية والسبعين من عمره بعد أن يكتشف أن عقد الماضي القريب والبعيد لا تقدم شيئا للجزائر بأستثناء البقاء في أسر الحلقة المغلقة التي أسمها وهم الدور الأقليمي والرهان على أسعار النفط للتغطية على الأخفاق تلو الأخفاق...