تبدو غزة على أبواب أحداث كبيرة. قبل خراب غزة، لا بدّ من كلام حقيقي بقال في هذه الظروف الحرجة بهدف وحيد هو تجنيب القطاع الذي يقطنه مليون ونصف مليون فلسطيني كارثة. ما دام لا بدّ من تسمية الأشياء بأسمائها، فأن البداية تكون بالأعتراف بأن هناك فارقا شاسعا بين دعم غزة وأهل القطاع من جهة وأستغلال الحصار الظالم المفروض على الغزاويين من الخارج والداخل، أي من داخل غزة نفسها، في الوقت ذاته، لتصفية الحسابات مع هذا الطرف العربي أو ذاك من جهة أخرى. أنها عملية تصب في خدمة أسرائيل في كل الأحوال والظروف مهما بذلت جهود لتغطيتها بشعارات براقة ذات مضمون فارغ. صارت غزة للأسف الشديد بازارا سياسيا يستغله بعضهم في عملية سياسية أقل ما يمكن أن توصف به أنها لا تخدم الفلسطينيين وقضيتهم... حتى لا نقول شيئا آخر. هناك بكل بساطة فجور لا حدود له يمارسه أولئل الذين يتاجرون ببؤس الغزاويين في غياب موقف عربي شجاع يسمي الأشياء بأسمائها ويحذّر من أن ممارسات quot;حماسquot; في غزة مرتبطة بحسابات لا علاقة للشعب الفلسطيني بها من قريب أو بعيد. بأستثناء، طبعا، أن المطلوب مرة أخرى أستخدام هذا الشعب وقودا في معارك أقليمية تنتهي كما العادة على حسابه ويدفع ثمنها من دم أبنائه.
لو كان هناك عرب فعلا، لما كانت جامعة الدول العربية أكتفت في أجتماع على مستوى وزراء الخارجية بتوفير الغطاء لأستمرار السيد محمود عبّاس (أبو مازن) في موقع رئيس السلطة الوطنية بعد التاسع من كانون الثاني- يناير المقبل. ليس كافيا تأكيد أن quot;أبو مازنquot; رئيس شرعي في غياب القدرة على أجراء أنتخابات رئاسية وتشريعية في غزة والقطاع. يبدو منطقيا أستتباع هذه الخطوة بالذهاب ألى ما هو أبعد من ذلك... ألى تعرية quot;حماسquot; وأظهارها على حقيقتها بصفة كونها رأس حربة للمشروع الأيراني- السوري الذي لا هدف له سوى الأستحواذ على أوراق يستخدمها في صفقات يعقدها مع الولايات المتحدة أو أسرائيل على حساب كل ما هو عربي في المنطقة. ليس صدفة أن هناك حملة واسعة في أتجاه التصعيد في غزة، ترافقها تظاهرات ذات طابع مذهبي في لبنان وغير لبنان تحت شعار رفع الحصار عن غزة. هذه الحملة تجري في هذه الأيام بالذات من أجل أفهام الأدارة الأميركية الجديدة، عشية تسلم مهماتها، أن غزة تسيّر بالريموت كونترول من دمشق أو طهران وأنها تستخدم في الضغط على مصر التي رفضت ولا تزال ترفض التغاضي عن الألاعيب والمناورات والمزايدات التي يمارسها المحور الأيراني- السوري في فلسطين أو لبنان أو العراق أو هذه الدولة العربية الخليجية أو تلك...
لو كان هناك عرب، لكانوا وقفوا وقفة رجل واحد وصاحوا بصوت مرتفع أن قضية غزة تستخدم من أجل تكريس استمرار الأحتلال الأسرائيلي لجزء من الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية. بكلام أوضح، تستخدم قضية غزة كي يظل العالم منصرفا عن الخطر الحقيقي الذي يهدد مستقبل الضفة الغربية والمتمثل في quot;الجدار الأمنيquot; الذي يخلق أمرا واقعا جديدا على الأرض والذي لم يعد هناك من يأتي على ذكره. يشكّل الجدار خطرا على فكرة قيام دولة فلسطينية quot;قابلة للحياةquot; وذلك بتقطيعه أوصال الضفة الغربية وأبقائه على مستعمرات وتجمعات سكنية أسرائيلية كبيرة فيها. يشكل quot;الجدارquot; عائقا في وجه المشروع الوطني الفلسطيني القابل للتحقيق وهو مشروع الدولة المستقلة وليس المشروع الوهمي البديل الداعي ألى أزالة أسرائيل من الوجود. يمثل هذا المشروع الخدمة الأكبر التي يمكن تقديمها لأسرائيل ولأستمرار الأحتلال نظرا الى أنه يدعم النظرية الأسرائيلية القائلة أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه.
أقل ما يمكن عمله عربيا في المرحلة الراهنة، الأعلان بكل صراحة أن قطاع غزة تحرر في العام 2005 وأن كل صاروخ يطلق من القطاع هدية من السماء للأحتلال. من يسعى بالفعل ألى فكّ الحصار لا يطلق صواريخ ولا ينقلب على الشرعية الفلسطينية. من يسعى بالفعل ألى فك الحصار، بدل تكريسه من أجل المتاجرة ببؤس الفلسطينيين، يرفع علم فلسطين عاليا وليس أعلام quot;الأمارة الأسلاميةquot; التي أقامتها quot;حماسquot; كما حصل في اليوم الذي أحتفلت فيه بالذكرى الواحدة والعشرين لتأسيسها. من يريد التخلص من الحصار لا يعمل من أجل عودة الأحتلال عن طريق ممارساته الأرهابية التي تستهدف التدمير والقتل بواسطة طائرات فيها طيار وأخرى من دون طيار.
من يريد بالفعل التخلص من الحصار يقول أن هناك برنامجا سياسيا فلسطينيا يتطابق مع قرارات الشرعية الدولية يقبل به المجتمع الدولي. وأن الخطوة ألأولى في أتجاه أعطاء صدقية للبرنامج تكون بتحويل غزة نموذجا لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية مستقبلا وليس منطقة تحولت ألى غابة سلاح تسودها شريعة الغاب. ولكن يظل السؤال الأساسي هل تريد quot;حماسquot; التخلص من الأحتلال والحصار... أم تريد أستخدام الحصار لأهداف أخرى من بينها المتاجرة ببؤس الغزاويين؟ من الواضح أن هدف quot;حماسquot; ليس التخلص من الأحتلال. كل ما تريده، وهذا ما أظهرته تصرفاتها، هو تدجين الشعب الفلسطيني في غزة كي يسهل عليها السيطرة عليه. في ذلك سر تعلقها بالحصار وعمل كل شيء من أجل أستمراره. أين المنطق في رفض كل المبادرات العربية، بما في ذلك المبادرة اليمنية، للأنتهاء من حال الأنقسام المستمرة من صيف العام 2007؟ أين المنطق في أحتجاز جندي أسرائيلي منذ صيف العام 2006 بأستثناء أن ذلك سمح لأسرائيل بأغتيال ما يزيد على ألف ومئتي مواطن فلسطيني وجرح مئات آخرين... أين المنطق في كل ما يحصل بأستثناء أن المطلوب بقاء الشعب الفلسطيني وقودا في معارك لا علاقة له بها من قريب أو بعيد وكأن تجارب الماضي القريب لا تعني شيئا بالنسبة أليه. بكل بساطة، على العرب رفع صوتهم قبل فوات الأوان والقول أن quot;حماسquot; تأخذ الفلسطينيين ألى كارثة جديدة لا أكثر ولا أقل وأن لا بدّ من ردعها رأفة بالغزاويين والشعب الفلسطيني وقضيته في آن.