لا حاجة إلى تعقيد الأمور أكثر مما هي معقدة في لبنان. على العكس من ذلك، في الأمكان تبسيطها بطريقة تجعل المواطن العادي داخل البلد وخارجه يفهم ماذا يدور حقيقة على أرض الواقع. كل ما في الأمر أن هناك أصرارا سوريا على الثلث المعطل في الحكومة بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في أمتلاك دمشق حق الفيتو على أي قرار وطني أو حتى على قرار تفصيلي صغير يمكن أتخاذه في أطار مجلس الوزراء مجتمعا. ما تنفذه المعارضة، عندما تصر على الثلث المعطل أو على بدعة التمثيل النسبي في الحكومة التي ينوي النائب سعد الحريري تشكيلها، هو تعليمات سورية لا أكثر ولا أقل. يريد النظام السوري اثبات أن لا شيء تغيّر في لبنان وأن رهانه على الوقت كان في مصلحته. يريد في الوقت ذاته تأكيد أنه عاد إلى لبنان من النافذة هو الذي خرج من البوابة الحدودية في العام 2005 أثر أستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. بكلام أوضح، ينوي النظام السوري ومن خلفه الإيرانيون الذين يرفضون الأعتراف بأن شيئا ما تغير في العمق في بلدهم تأكيد أن المرجعية السياسية في لبنان لا تزال خارج لبنان أي في دمشق وطهران تحديدا.
تكمن مشكلة النظام السوري في أنه لا يريد أن يتعلم من تجارب الماضي القريب. وتكمن مشكلة النظام الإيراني في أنه يعتقد أن الهجوم أفضل طريقة للدفاع وأن لا مشكلة داخلية لديه. تعكس العراقيل التي تضعها طهران ودمشق في طريق تشكيل الحكومة اللبنانية رغبة واضحة لدى النظامين في رفض الأعتراف بأنهما ليسا أكثر من نظامين مريضين على كل منهما الأهتمام بشؤونه الداخلية بدل البحث عن دور أقليمي في هذه المنطقة العربية أو تلك أو في هذا البلد العربي أو ذاك. هل يستطيع النظام الإيراني ممثلا بالقيمين عليه أن يسأل نفسه لماذا كل هذه المقاومة التي يظهرها الشعب لأحمدي نجاد بكل ما يمثله تخلف على كل الصعد؟ هل يستطيع النظام السوري أن يواجه الأسباب الحقيقية التي تدفع بآلاف العمال السوريين إلى السعي إلى أيجداد فرصة عمل في لبنان أو حتى في الأردن؟ وفي حال كانت الأجابة عن مثل هذا السؤال صعبة عليه، هل يستطيع أجراء دراسة ميدانية لحال المدارس والجامعات السورية ومستوى التعليم فيها ونوع المواد التي تدرس وأسباب تصاعد موجة التطرف الديني في كل كل الأوساط الأجتماعية؟ لا حاجة بالطبع إلى طرح سؤال عن حال الزراعة السورية أو آخر من نوع لماذا يعيش أفضل السوريين خارج سوريا ولماذا كل العقول السورية من أطباء ومهندسين وعلماء تبقى في الخارج ناهيك عن كبار المستثمرين الذين في أستطاعتهم عمل الكثير ليس في سوريا وحدها، بل في لبنان أيضا؟
من يتحدث عن الثلث المعطل في الحكومة اللبنانية أو عن التمثيل النسبي فيها يخدع نفسه أوّلا. النظام السوري يخدع نفسه قبل النظام الإيراني، لا لشيء سوى لأن عليه أن يدرك قبل غيره أن عهد تطبيق الطائف على الطريقة السورية قد ولّى. لقد عمل النظام السوري منذ التوصل إلى أتفاق الطائف في العام 1989على تطبيقه حسب مفهوم خاص به تختصره صيغة أن المرجعية السياسية لكل زعماء لبنان بما في ذلك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب هي في دمشق وليس في أي مكان آخر. أكثر من ذلك، اصرّت دمشق على تعيين كبار موظفي الدولة اللبنانية وعلى أبعاد السفراء الذين لا ترضى بهم. وهذا ما حصل في مرحلة ما مع السفير سيمون كرم عندما كان في واشنطن، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر... أبعد سيمون كرم لأن السوريين كانوا غير راضين عنه وكانوا يصرون على تركه العاصمة الأميركية!
نجح النظام السوري في فرض تفسيره للطائف بفضل عاملين أساسيين. تخلص أولا من الرئيس رينيه معوض في تشرين الثاني- نوفمبر من العام 1989. كان الشهيد رينيه معوض يرمز إلى طائف مختلف ليس معاديا لسوريا لكنه يحافظ على العلاقات المتوازنة للبنان أقليميا ودوليا ويسمح لرئيس الجمهورية اللبنانية بلعب دوره التوافقي على الصعيد الوطني بدل أن يكون مجرد مدير عام لدائرة ما في الرئاسة السورية كما كانت حال ذلك الرئيس الذي يخجل المرء من ذكر أسمه. أما العامل الآخر الذي ساعد في جعل الطائف ينفّذ حسب المواصفات السورية، فكان شخصا أسمه الجنرال ميشال عون الذي قاد التمرد على الطائف من قصر بعبدا، فأذا به يلعب دورا حاسما في تحويل الطائف اللبناني- العربي إلى طائف سوري بعدما خاض حروبا خاسرة سلفا عادت على اللبنانيين، خصوصا المسيحيين منهم بالويلات. المضحك- المبكي أن السوريين ساعدوا ميشال عون في حروبه التي مكنتهم من دخول قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة للمرة الأولى منذ أستقلال البلد في العام 1943.
ما لا يستطيع النظام السوري أستيعابه حاليا أن لا عودة إلى الطائف السوري وأن كل القواعد quot;الفلسطينيةquot; التي يقيمها في الأراضي اللبنانية لن تسهل له ذلك. ولن تنفعه في ذلك أدواته المحلية ولا أدواته الإيرانية ولا أدوات الأدوات المعروفة التي تدعي أن لديها كتلا نيابية كبيرة. في أستطاعة السوريين والإيرانيين في النهاية أن يركبوا لميشال عون أطرافا أصطناعية تمكنه من الأدعاء بأن لديه كتلة كبيرة. لكنهم لا يستطيعون في أي شكل أن يزرعوا في رأسه عقلا، خصوصا أن بقية ما كان لديه من عقل تبخّرت بعدما هزمته في دائرة بيروت الأولى شابة أسمها نايلة جبران تويني أسقطت أفراد لائحته وعددهم خمسة فردا فردا... الواحد بجريرة الآخر!
لا عودة إلى الطائف السوري ولا عودة إلى الطائف الإيراني أيضا. قبل أن تتكشف حقيقة النظام الإيراني في الأنتخابات الرئاسية الأخيرة التي أظهرت أن الشعب الإيراني، مثله مثل الشعب اللبناني، يتوق إلى ثقافة الحياة والحرية والكرامة والأستقلال، سقط quot;حزب اللهquot; بسبب لعبة السلاح. تماما كما سقط قبله المسلحون الفلسطينيون الذين أرتدوا من الجنوب على بيروت واقاموا فيها جمهورية الفاكهاني في السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي. في أمكان كل من يرفض تصديق هذا الكلام عرض مسيرة quot;حزب اللهquot; في السنوات الثلاث الأخيرة. كان الحزب الذي ليس سوى سوى لواء في quot;الحرس الثوري الإيرانيquot; يتذرع بأسرائيل للأحتفاظ بسلاحه. أعتدت أسرائيل على لبنان صيف العام 2006 ولا بدّ من الأعتراف بالبطولات التي أظهرها مقاتلو الحزب في مواجهة العدو ولا بدّ من السجود أمام كل شهيد من الشهداء. ولكن بعد أنتهاء الحرب التي عادت بالكوارث على لبنان وبعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن، لم يعد للسلاح دور اللهم ألا أذا كان المطلوب تكرار السابع من أيار- مايو 2008، أي غزوة بيروت والجبل وأثارة الغرائز المذهبية البغيضة التي لا تخدم سوى أسرائيل. صار السلاح الإيراني موجها إلى صدور اللبنانيين الشرفاء فعلا. الثلث المعطل في الحكومة يستهدف تطيل الحياة السياسية في لبنان ومنع رئيس الجمهورية ميشال سليمان من لعب دور المرجعية. كل ما هو مطلوب أن تبقى مرجعية لبنان واللبنانيين في دمشق وطهران. أنها معركة الطائف. الطائف اللبناني- العربي الذي يؤمن به اللبنانيون. ذلك هو معنى المعركة التي تدور رحاها في لبنان الآن. أنها بالفعل معركة الحرية والسيادة والأستقلال والتخلص من الوصاية... معركة رفض الطائف السوري- الإيراني!