"تراجع عطارد عائد يا أعزائي".
ساديكا، عالمة فلك ومدربة حياة روحية، ناشطة على إنستغرام. طلبن متابعيها البالغ عددهم 5 آلاف أن يتنبهوا لاحتمال وقوع مشاكل في التكنولوجيا وصعوبات في التواصل مع الناس، بل وحتى حوادث السيارات، قبل بدء تراجع كوكب عطارد اعتبارًا من الخامس من آب (أغسطس).
عادةً ما تمتلئ منصات إنستغرام وتيك توك مرات عديدة في السنة بمثل هذه المنشورات التحذيرية، إلى جانب محتوى ساخر يشير إلى أن الناس يلقون اللوم على تراجع عطارد بدلًا من مواجهة مشاكلهم بشكل فعلي.
تأثير الفراشة: ما هي نظرية الفوضى وكيف تؤثر في الكون؟
كوكب عطارد كان يوما "عالما مليئا بالحيوية"
عطارد هو الكوكب الأقرب إلى الشمس، و"تراجع عطارد" هو وهم بصري يحدث ثلاث أو أربع مرات في السنة، يجعل الكوكب يبدو وكأنه يتحرك في الاتجاه المعاكس. يشبه هذا تأثير تجاوز سيارة لأخرى، حيث تبدو السيارة الأبطأ وكأنها تتحرك إلى الخلف بالنسبة لركاب السيارة الأسرع. تظهر جميع الكواكب بهذا الشكل من الأرض في أوقات مختلفة، إذ تدور حول الشمس بسرعات متفاوتة.
عرف الناس تراجع عطارد منذ آلاف السنين، وربط المؤمنون بعلم التنجيم (الذي يفترض بوجود تأثير للنجوم والكواكب على الأحداث الشخصية) بينه وبين زيادة المشاكل الشخصية.
شاهد كيف يبدو تراجع عطارد من وجهة نظرنا على الأرض. اسحب الشريط لتغيير النقطة بحسب الوقت.
Click here to see the BBC interactive
وقالت لينا سحاب (42 عاماً) وتعمل في منظمة غير ربحية، لبي بي سي عربي، إنها كانت تعتبر تأثيرات كوكب عطارد على حياتنا مجرد خرافات في البداية.
لكنها أضافت: "ثم بدأت ألاحظ أن العقبات في حياتي تحدث بالفعل أثناء تراجع عطارد. سيتوقف جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي فجأة عن العمل، أو أشتري جهازاً له علاقة بالتكنولوجيا ليظهر أنه لا يعمل بشكل صحيح".
في عصر يمكننا فيه التنبؤ بالطقس والعثور على إجابات لمعظم أسئلتنا عبر محرك البحث غوغل، يلجأ العديد من محبي علم التنجيم إلى الأبراج للحصول على إرشادات حول أمور لا يزال معظم الناس يشعرون بعدم السيطرة الكاملة عليها، مثل العلاقات الرومانسية أو الصداقات أو حتى التكنولوجيا.
قد لا يكون من قبيل المصدافة أنه وفقاً لمؤشرات غوغل (غوغل ترندز)، بلغت عمليات البحث عن "الخريطة الفلكية" و"علم التنجيم" ذروتها خلال عام 2020، أثناء جائحة كوفيد-19، حيث سادت حالة هائلة من عدم اليقين.
وعلى الرغم من اعتبار علم التنجيم اليوم علماً زائفاً أو من أشباه العلوم، إلا أنه في الحضارات القديمة التي نشأ فيها كان الناس بحاجة إلى طرق تساعدهم على التنبؤ بأمور مثل توقيت هطول الأمطار ودرجات الحرارة وسرعة الرياح وأشعة الشمس، حيث كان ذلك مهارة للبقاء على قيد الحياة.
ويمكن تعقب ظهور علم التنجيم إلى ما بين 3000 قبل الميلاد و2001 قبل الميلاد إلى منطقة في غرب آسيا كانت تعرف آنذاك باسم بلاد الرافدين.
ومن هناك، انتشر إلى الهند، وفي النهاية بدأ يتخذ شكلاً يشبه ما هو عليه الآن خلال الفترة الهلنستية (323 قبل الميلاد إلى 31 قبل الميلاد) في اليونان القديمة.
يقول الدكتور نيكولاس كامبيون، أستاذ علم الكونيات والثقافة في جامعة "ويلز ترينيتي سانت ديفيد"، إن اكتشاف ظاهرة تراجع عطارد تمّ خلال القرن الأخير قبل الميلاد، ولكنها لم تكن تُفسّر دائماً كما هو الحال اليوم.
يشير الدكتور كامبيون إلى أنه خلال العصور الوسطى، إذا كان شخص ما يحاول الإجابة على سؤال من خلال رسم مخطط فلكي، كان يعتبر تراجع عطارد علامة على أن الإجابة ستكون سلبية أو أن شيئاً ما "من غير المرجح أن يحدث".
ويضيف: "في القرن العشرين وفي علم التنجيم الخاص بالعالم الناطق باللغة الإنجليزية، أصبح تراجع عطارد يعني حصول تأخيرات"، موضحاً أن هذا التفسير بدأ يهيمن في فترة الثمانينيات.
ويوضح الدكتور كامبيون أن علماء الفلك المعاصرين الذين يؤمنون بتأثيرات تراجع عطارد يعتقدون أنه يعني تعليق الخطط، أو أنه وقت غير مناسب لبدء وظيفة جديدة أو القيام بشيء جديد.
ويقول: "هذه السمة تنتمي بشكل كبير إلى فرع معين من علم التنجيم الغربي". ويضيف: "علم التنجيم الغربي ينتشر الآن في جميع أنحاء العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات، لذا أصبح عالمياً".
ويؤكد الدكتور كامبيون أن تراجع عطارد لم يكن يتمتع دائماً بنفس الأهمية التي يُشار إليها اليوم: "لطالما كانت ظاهرة ذات أهمية قليلة جداً في علم التنجيم".
لا دليل علمي
تقول دارا باتل، من مركز الفضاء الوطني البريطاني في ليستر: "على الرغم من أن علم الفلك والتنجيم ربما كانا متشابكين بشكل وثيق في الماضي، إلا أن الإجماع العلمي العام في الوقت الحاضر يفيد بأن الظواهر الفلكية مثل تراجعات الكواكب ليس لديها أي تأثير يمكن التنبؤ به على حياة الناس."
ولكن على الرغم من افتقاره إلى الدعم العلمي، لا يزال علم التنجيم يتمتع بجاذبية جماهيرية كبيرة، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي.
إذا كان العلم يشير إلى أن تراجع عطارد قد لا يكون له أي تأثير على حياتنا، فلماذا لا يزال الكثير من الناس يلجأون إلى النجوم للحصول على إجابات؟
ربطت بعض الدراسات بين الاعتقاد بالأبراج والتنجيم ونظرية "التحيز التأكيدي"، وهو الميل إلى تصديق أو تذكر المعلومات التي تتوافق مع معتقداتنا الموجودة مسبقًا، وتفسير هذه المعلومات بشكل انتقائي لدعم تلك المعتقدات.
تقول زينب عجمي، وهي معالجة نفسية لبنانية تقوم حالياً بعمل إنساني في مجال الصحة العقلية في أوكرانيا، لبي بي سي: "الناس يميلون إلى تصديق الأشياء التي تجعلهم يشعرون بالراحة، والتي لا تتطلب من الدماغ العمل المستمر في التحليل وإعادة التقييم."
وتضيف أن علم التنجيم قد يوفر "تفسيراً سريعاً وسهلاً" للأحداث الصعبة، دون الحاجة إلى النظر في "الطبقات المتعددة المسببة لمشاكلهم".
لكن كثيرين يجدون في الأبراج مصدراً للإلهام أو الترفيه أو العزاء الروحي.
تقول ميراي حمّال، المتخصصة في الريكي (علاج تكميلي وشكل من أشكال الشفاء بالطاقة) ومقرها بيروت، إن العملاء الذين يؤمنون بتأثير تراجع عطارد "عادة ما يتجنبون شراء الأجهزة الإلكترونية خلال تلك الفترة، أو يؤجلون توقيع العقود، أو الانتقال إلى منزل جديد أو اتخاذ خطوة الزواج أو الخطبة."
تشير حمّال إلى أن "الكثير من الناس يعتبرون علم التنجيم مجرد هراء"، لكنها تعتقد أنه يمكن أن يكون مفيدًا للناس طالما أنهم يتجنبون "الوصول إلى نقطة الهوس."
ويعتقد الدكتور كامبيون، الذي يدير دورة لدرجة الماجستير في علم الفلك الثقافي وعلم التنجيم، أن مفهوم تراجع عطارد وجد شعبية بسبب بساطته، لكنه يقول إن ذلك يمكنه أيضًا أن يقوّض كيفية النظر إلى علم التنجيم الاحترافي.
ويضيف: "[تراجع عطارد] لا يحتاج تقريباً إلى أي تفسير أو تأويل. هو ليس مسألة معقدة وينطبق على الجميع بالطريقة نفسها."
ويتابع قائلاً: "إن فكرة [تراجع عطارد] التي تتمحور حول ما إذا كان الوقت الحالي مناسباً أو سيئاً لوضع الخطط تقوّض حقًا فكرة أن علم التنجيم يمكن أن يكون معقداً ودقيقًا جدًا ويختلف بحسب تفاصيل كثيرة."
ويختتم بقوله: "لأن الحقيقة المعروفة هي أن الكثير من الأشياء تحدث بشكل جيد للغاية عندما يكون عطارد متراجعاً."
___________________________________________________
من فريق الصحافة المرئية في بي بي سي:
تصميم: مريم نيكان
تطوير: ماثيو تايلور
بحث: ليوني روبرتسون
التعليقات