منذ أكثر من 300 عام، ينتظر أبناء بلدة إهدن في شمال لبنان هذا اليوم، ويحلمون به من جيل إلى جيل، وهو يوم تطويب البطريرك الماروني اسطفان الدويهي الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر.

والطوباوية هي ثالث درجة من درجات التكريم في الكنيسة الكاثوليكية للأشخاص الذين عاشوا حياة صالحة وصنعوا مآثر في التقوى والإيمان.

ويُرفع طلب التقديس أمام مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان، بعد خمس سنوات من الوفاة. ولإعلان الشخص طوباويّاً، تحتاج الكنيسة لإثبات حدوث معجزة بشفاعته، ولإعلانه قديساً، تحتاج لإثبات معجزتين.

فبعد موافقة الفاتيكان، تنطلق مراسم التطويب الرسمية مساء الجمعة في بكركي، مقر البطريكية المارونية (جبل لبنان)، وذلك في الذكرى الـ394 على ميلاد الدويهي في 2 أغسطس/آب 1630.

وتتواصل الاحتفالات في اليوم التالي، في مسقط رأسه إهدن، من خلال قداس شكر يتوقّع أن يشارك فيه الآلاف.

والدويهي هو البطريرك 57 للموارنة (انتخب عام 1670)، وكان له الفضل الأكبر في كتابة القداس الماروني، إلى جانب كونه واحداً من أبرز مؤرخي وكتاب عصره.

والموارنة مجموعة دينية مسيحية، تعود تسميتهم إلى مار مارون الراهب السرياني الذي عاش في شمال سوريا خلال القرن الرابع. حالياً تتركّز كثافة الموارنة السكانية في جبل لبنان، وتعدّ إهدن من أكبر القرى المارونية في شمال البلاد.

صور الدويهي مرفوعة كل زاوية من زوايا بلدته
BBC
صور الدويهي مرفوعة كل زاوية من زوايا بلدته

زرتُ إهدن قبل أيام، فوجدتُ صور الدويهي مرفوعة على جدار كل بيت وفي كلّ زاوية من زوايا البلدة.

تكون البلدة مكتظة في الصيف، بالسيّاح والمغتربين، إلى جانب أبنائها الذين يوزعون سكنهم بين مدينة زغرتا الساحلية المجاورة شتاءً، وجبال إهدن صيفاً.

تبعد البلدة عن بيروت نحو 110 كيلومتراً، وترتفع 1500 متراً عن سطح البحر، وتعرف بأنها من أبرز مصايف لبنان، لجمال طبيعتها والتنوّع البيئي في محميتها الطبيعية والأديرة التاريخية فيها، إلى جانب مطبخها التراثي المعروف بأطباق الكبة.

تعدّ المنطقة من محطات السياحة البيئية والدينية المهمّة في البلاد، ولكن "تطويب الدويهي سيكون له تأثير كبير لسنوات طويلة على تنشيط عجلة السياحة الدينية على وجه الخصوص"، بحسب ابنة إهدن سالي زخيا، وهي باحثة في مجال السياحة والتنظيم الريفي.

تقول سالي زخيا لبي بي سي عربي: "هذا الحدث الديني سيجعل إهدن محط أنظار، ليس فقط بالنسبة للأشخاص الذين سيسعون لزيارتها لأهداف إيمانية، ولكن أيضاً لكل من لديه فضول ثقافي واهتمام بالمعالم الدينية الأثرية، والباحثين والراغبين بكتابة دراسات عن حياة البطريرك الدويهي".

تأمل سالي أن تصل جهود تحديد الموقع الدقيق لمنزل الدويهي، إلى نتيجة، لأنه سيكون معلماً أثرياً مهماً في المنطقة، ويفتح الباب على دراسة تاريخ حياته بشكل أدقّ.

يتوارث الناس هنا في إهدن، محبّة الدويهي من الأم إلى الابنة إلى الحفيدة، خصوصاً أنه عاش معظم حياته في بلدته، وكان على صلة وثيقة بناسها، وله إسهامات كبيرة في تأسيس مدارس وكنائس فيه.

"سيصير لدينا واسطة (دعم) في السماء"، تقول لي جيزال الحاج، وهي ابنة إهدن التي لا تنجح في إخفاء تأثرها الشديد بالحدث.

تخبرني أن أهلها، ككلّ أبناء المنطقة، "يعتبرون البطريرك اسطفان قديساً، حتى قبل تثبيت الفاتيكان لذلك. وكنا نطلب شفاعته ونصلي له، ونرث ذلك عن أجدادنا وأسلافنا".

تخبرني أن الحلم الوحيد لوالدتها "ولكلّ الأمهات والآباء والجدات والأجداد في البلدة، كان زيارة روما يوم تطويب أو تقديس البطريرك اسطفان. والآن بعد تغيير القوانين في الفاتيكان صار يسمح بإقامة القداس في بلد الطوباوي، وذلك ما يجعل سعادتهم فوق الوصف".

شعرتُ خلال زيارة إهدن، أن هذه الفرحة لن ينغصها شيء، رغم الحديث عن وجود مناكفات سياسية في كواليس التحضيرات، إلى جانب بعض الخلافات التنظيمية.

ويأتي الاحتفال بتطويب البطريرك الدويهي في سياق سياسي وأمني مضطرب في لبنان، ويرى كثيرون أن هذه المناسبة الدينية ستكون وقتاً مستقطعاً للصلاة من أجل السلام.

وتقام مراسم التطويب بعد أيام قليلة من اغتيال القائد العسكري في حزب الله، فؤاد شكر، باستهداف إسرائيلي في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، وبعد عشرة أشهر من القصف العنيف المتبادل بين حزب الله وإسرائيل على حدود لبنان الجنوبية.

لذلك يقول أبناء إهدن إن مناسبة التطويب تأتي بمثابة "نعمة" لكلّ اللبنانيين، في زمن صعب.

الضاحية الجنوبية: بيوت "المحرومين" التي بنيت في بساتين الليمون

من هو اسطفان الدويهي؟

يعدّ البطريرك اسطفان الدويهي ثالث أبرز شخصية في تاريخ الكنيسة المارونية بعد مؤسسها مار مارون الذي عاش في شمال سوريا في منتصف القرن الرابع، والبطريرك الأول يوحنا مارون الذي ولد في السرمانية (شمال سوريا) عام 628، وتوفي في جبل لبنان عام 707.

ويُلقب الدويهي بأنه "أبو التاريخ الماروني"، إذ أنه لم يكن قائداً دينياً وحسب، بل يعدّ من أبرز علماء ومؤرخي عصره، وألّف كتباً محورية تعدّ مراجع في توثيق تاريخ الموارنة، إلى جانب كتابته جزءاً كبيراً من الصلوات والقداديس، وتأسيسه عدداً من الكنائس والمدارس.

أثناء فترة توليه للبطريركية عام 1670 إلى 1704، عمل على ضمان أصالة الطقوس المارونية المشرقية الفريدة، بعيداً عن العناصر اللاتينية المستقدمة من التقاليد الغربية.

كان لبنان في ذلك الحين تحت الحكم العثماني، وشهدت العلاقة بين البطريرك والعثمانيين اضطرابات، لرفضه سياسة الضرائب التي رآها جائرة، لكونها كانت تؤثر سلباً على الفلاحين الفقراء بشكل خاص.

وأقام البطريرك في بلدة قنوبين (شمال لبنان) مقر أسلافه، وكانت النزاعات المستمرة والاضطرابات السياسية بين الطوائف اللبنانية من جهة، وبين الأمراء اللبنانيين والحكام الأتراك من جهة ثانية، تدفعه للاحتماء بالكهوف المجاورة لقنوبين.

خلال حياته زار مدناً عدّة لتأسيس المدارس وتعزيز مكانة التعليم، وكان ذلك هدفه الرئيسي، إلى جانب حفظ التقاليد المارونية. فتنقل بين قبرص، وحلب، ومناطق كسروان والشوف في لبنان.

محطات بارزة من حياته

2 آب/ أغسطس 1630

الولادة في إهدن

1641

في سن الحادية عشرة، أُرسل الدويهي إلى روما للالتحاق بالكلية المارونية، حيث درس لمدة أربع عشرة سنة.

1656

سيامته كاهناً

1668

تعيين الدويهي أسقفاً لقبرص، حيث عمل على تنظيم الأبرشية، وزار العائلات المارونية في الجزيرة.

1670

انتخاب الدويهي بطريركاً للكنيسة المارونية في قنوبين.

1704

وفاته في وادي قاديشا الذي يعرف بوادي القديسين في لبنان.