يؤرخ كتاب "المدفعية المصرية: الابتكار والتطور.. من العصر المملوكي إلى عصر محمد علي" للدكتور المصطفى محمد الخراط لصناعة المدافع في مصر منذ العصر المملوكي إلى عصر محمد علي، ويرصد تطور تقنيات سلاح المدفعية عبر العصور، ويقيس أثر تطور التقنيات في كثافة استخدام الجيوش للمدافع، لاسيما في العصر المملوكي الذي شهد اهتمامًا خاصًا من قبل السلاطين المماليك بصناعة المدافع. وأشار سراج الدين إلى أن اهتمام السلاطين المماليك بصناعة المدافع لا يشير فقط إلى اهتمامهم بالصناعات العسكرية، بل يقدم صورة للمدى الذي بلغته مصر في هذا العصر من الاهتمام بمختلف العلوم.

ويتناول الكتاب السابع عشر في سلسلة "ذاكرة مصر المعاصرة" التي تصدرها إدارة المشروعات الخاصة بمكتبة الإسكندرية، أحوال المدفعية المصرية منذ دخولها الجيش المملوكي وتطورها خلال فترة الحكم العثماني، وصولًا إلى فترة حكم محمد علي والإصلاحات التي قام بها لتطوير الجيش المصري من الناحية العامة والمدفعية من الناحية الخاصة.

وقد قدم المؤلف في بداية الكتاب تمهيدًا حضاريًا لمفهوم الأسلحة ومراحل تطورها، وظهور الأسلحة النارية بمفهومها القديم، ودور العلماء المتخصصين في ابتكار مسحوق البارود والأسلحة النارية بمفهومها الجديد والتي بدأ استخدامها بشكل منتظم مع منتصف القرن الثامن الهجري، وصولًا إلى القرن التاسع الهجري الذي شهد اهتمامًا واسعًا بدراسة الأسلحة النارية بأسلوب علمي والعمل على تطويرها.

ويتطرق الكتاب للمدفعية المصرية من عدة جوانب؛ أهمها الجانب التطوري لها من حيث دراسة التقنيات الخاصة بالمدافع التي لعبت دورًا كبيرًا في حسم المعارك، وتغيير منظومة الدفاع للتحصينات الحربية، كما عمل على إبراز دور علماء المسلمين في تطوير فن المدفعية خلال العصور التي تناولها المؤلف، للوقوف على الدور الحقيقي والفعال لعلماء المسلمين، والذي ساهم بلا شك في تطوير المدفعية على مر العصور.
ينقسم الكتاب إلى أربعة فصول؛ الأول تناول المدفعية خلال العصر المملوكي وكيف استطاع سلاطين المماليك مواكبة التطور في ذلك الوقت باستخدام هذا السلاح الهام، بالإضافة إلى محاولة علماء العصر المملوكي من تطويره وابتكار أنواع جديدة منه، على عكس ما أشيع بأن سلاطين المماليك كانوا يخشون استخدام هذا السلاح.

ويؤكد الكاتب في هذا الفصل على أن فترة العصر المملوكي من المراحل المهمة في تقدم التقنيات الحربية الإسلامية التي وضعت أسسًا هامة سار على نهجها من اهتم بعدهم بمجال الأسلحة النارية، حيث اهتم سلاطين المماليك بصناعة وسبك المدافع وكانوا يتابعون بأنفسهم هذه الصناعة ويشجعون من يقوم على تطويرها، وهو ما شجع على ظهور عديد من العلماء المسلمين في هذه الفترة كانوا محط اهتمام ورعاية هؤلاء السلاطين؛ مثل العالم المسلم نجم الدين حسن الرماح، وأرنبغا الزردكاش، وابن منكلي الناصري، وغيرهم ممن ساهموا في النهوض بعلم الآلات الحربية وعملوا على تطورها وفق منهج علمي دقيق.

أما الفصل الثاني؛ فيدرس المدفعية في العصر العثماني وكيف ساهم علماء المسلمين في ذلك العصر في تطوير المدفعية وابتكار أنواع جديدة منها لم تعرفها أوروبا إلا بعد فترة طويلة من الزمن. ويقول المؤلف في هذا الصدد إن الآراء اختلفت حول معرفة واستخدام العثمانيين للأسلحة النارية، إلا أن الثابت لدينا هو أن العثمانيين كانت لديهم دراية باستخدام المدافع في أواخر القرن الثامن الهجري، وأشار بعض المؤرخين إلى أن استخدام المدافع في الجيش العثماني انتظم في عصر السلطان بايزيد الأول.

ويرى المؤلف أن المدفعية الإسلامية وخاصة العثمانية سطرت سطرًا جديدًا من صفحات التطور الحربي الإسلامي في ذلك الوقت؛ فأصبحت المدفعية الإسلامية علمًا متخصصًا بذاته، له معلمون متخصصون، حرص سلاطين العثمانيين على الاهتمام بهم ووضعهم في مصاف المراتب الأولى في الدولة، وكان من أبرز العلماء في العصر العثماني الذين أسهموا بشكل كبير في تطوير الآلات الحربية وخاصة المدافع؛ العالم العثماني بيرم أغلو علي أغا.

أما الفصل الثالث فيتناول المدفعية المصرية خلال حكم محمد علي باشا، وكيف أنه أخذ على عاتقه ضرورة تطوير الجيش المصري بصفة عامة والمدفعية بصفة خاصة، وحرصه الشديد على مواكبة كل جديد يخص الفنون الحربية بصفة عامة وفن المدفعية بصفة خاصة، فكان يصب اهتمامه على إنشاء مسابك المدافع التي كانت تنتج مدافع لا تقل جودة عن المدافع الأوروبية في ذلك الوقت.

وقد أثبتت الوثائق أن محمد علي بنفسه كان يتابع عملية السبك، ويرسل الفنيين إلى أوروبا للتدريب على أحدث نظم السبك والصب، ثم يعودون لتطبيق ما درسوه في مصر، وكان حريصًا على معاقبة من يقصر في عمله إن أنتج مدفعًا مسبوكًا أقل جودة من المعيار المطلوب.

وكان لاحتكاك محمد علي باشا بالفرنسيين في المعارك الحربية التي دارت بينهما أوائل القرن الثالث عشر الهجري، دور في ما لحق بالجيش المصري من تطوير في ذلك الوقت؛ حيث رأى محمد علي باشا تراجع النظم التكتيكية والسلاح في مصر بالقياس إلى ما وصل إليه الجيش الفرنسي من تقدم في تلك المجالات، وأدرك أنه لن يحقق تفوقًا حربيًا إلا بجيش قوي وسلاح حديث.

وفي سبيل ذلك، اهتم محمد علي بتطوير المدفعية حيث دخلت عصرًا جديدًا من التطور في عهده، واتخذ لتحقيق ذلك عدة إجراءات كانت أولها محاولة تطوير المدافع وإدخال تحسينات فنية عليها، وهو ما جعل محمد علي ينشئ مدرسة متخصصة للمدفعية بمنطقة طرة تولى إدارتها ضابط إسباني يدعى أنطونيو دي سيجويرا، لتخريج ضباط المدفعية، وقد اختير لها 300 تلميذ من خريجي مدرسة القصر العيني التجهيزية التي كانت تدرس شتى أنواع الفنون الحربية.

واهتم محمد علي بصناعة المدافع فأسس ترسانة القلعة وتولى إدارتها أدهم بك قائد المدفعية، كما اهتم بصناعة سبك المعادن؛ فأسس مدرسة متخصصة للمعادن أطلق عليها "مدرسة المعادن"، وكلف سليمان باشا الفرنساوي بتأسيسها وإدارتها، وخصص لها مكانًا بمنطقة الأزبكية.

ويتناول الفصل الرابع دراسة لتقنيات المدافع تفصيلًا من حيث مكوناتها والآلات المستخدمة في عملها وكيفية صناعتها وسبكها، ومراحلها المختلفة في ذلك، وكيفية إعداد مسحوق البارود الخاص بها، وما يتعلق بكراتها وأنواع مقذوفاتها المختلفة، وقد ضم الكتاب مجموعة من الأشكال واللوحات التي تخدم النص وتساعد على فهم المحتوى بقدر الإمكان.

ويقول الكاتب في هذا الفصل إن المدافع أصبحت سلاحًا رئيسيًا من دون منازع في المعارك، فكان من الضروري الاهتمام بدراسة تقنياتها كعلم متخصص بطريقة أكاديمية يهتم به باحثون متخصصون في هذا المجال دون غيره، ومر المدفع بمراحل غير مستقرة من حيث شكله وكيفية سبكه وصناعته وأيضًا استخدامه، وذلك نتيجة محاولات التطوير التي كانت تلاحقه من قبل العلماء كون علم المدفعية لم يكن منتشرًا وراسخًا أقدامه عند العسكريين في ذلك الوقت.

لم يتحدد معالم هذا العلم ولم يعرف له نظم وقوانين إلا في أواخر القرن العاشر الهجري حين استقر شكل المدفع، ووضعت ضوابط ونظم لصناعته وسبكه وعوامل جودته، بالإضافة إلى تحديد أنواعه وما يختص لكل نوع من صفات ومميزات، وذلك لضمان جودته في العمل، وأصبحت تلك النظم والقوانين هي التي تحدد شكل المدفع العام والتي استمر العمل بها حتى منتصف القرن الثالث عشر الهجري؛ حيث أصبح المدفع يسبك كقطعة واحدة وبماسورة ذات تجويف أملس ولم يطرأ عليه تغيير إلا بعد التغييرات التي حاول العلماء إدخالها للعمل على سهولة نقله وزيادة المدى المؤثر لقذائفه.

وتطرق هذا الفصل أيضًا لمكونات وأجزاء المدفع وتقنيات المدافع وكيفية علمها من حيث سبك المدفع وتفريغه والتحقق من دقة أدواره وتثليثه وتجريبه وتجهيز المغارف والمدكات والسلك ومسحوق البارود الخاص به وتعميره، وغيرها.

يذكر أن الكتاب يتبع بجزء ثاني يتناول ثاني أهم أنواع الأسلحة النارية ألا وهو "الموسكيت"؛ وهو نوع من أنواع البنادق التي ظهرت في ذلك الوقت. وأن السلسلة ـ ذاكرة مصر المعاصرة المشرف العام لها د.إسماعيل سراج الدين؛ مدير مكتبة الإسكندرية، والمشرف على مشروع ذاكرة مصر المعاصرة د.خالد عزب؛ رئيس قطاع المشروعات الخاصة والخدمات المركزية، سكرتارية التحرير؛ إيمان الخطيب، المراجعة اللغوية لسماح رضوان، فنون الخط العربي لمحمد جمعة، والتصميم والإخراج الفني لسارة سيد.&