كان جان – بيار بودهار مشرّدًا في ليالي باريس الباردة، لكنه صار يملك عمارتين يخصصهما ملجأ للمشرّدين، يأويهم من البرد، ويؤمّن لهم عناية مرحلية ليستعيدوا حياتهم.

إيلاف من باريس: أمضى جان- بيار بودهار في الطريق&أشهرًا عدة. كان عمره 17 عامًا، بقي من دون مأوى، لا سقف يحميه، مشرّدًا ينام تحت السماء والنجوم في شوارع مدينة في شمال فرنسا. بعد أربعين عامًا، صار جان- بيار مالك وكالة عقارية يساعد من خلالها عددًا كبيرًا من المشرّدين.

غيّروا حياته
قرّر بودهار أن يروي قصّة ألمه وأمله لـ "إيلاف"، على الرغم من أنه لا يرغب في استرجاع حزن الماضي: "عشت مأساة حقيقية لا أحبّ أن تعود إلى ذاكرتي. كنت أنام يومًا على مقعد في الشارع، في مدخل مبنى أو داخل سيارة أو في محطّة قطار. الحياة ليست سهلة، لكنني كنت حذرًا، أهتمّ بنظافتي، لا أتناول كحولًا ولا أتعاطى المخدرات".

انقلبت حياة الشاب رأسًا على عقب حين دخل يومًا حانة صغيرة كان يسمح له صاحبها بالنوم فيها. التقى هناك ثلاثة طلاب، فشرب معهم القهوة. سألوه عن وضعه، فأخبرهم باختصار عن مشكلاته العائلية: "كنت محظوظًا بالفعل. عرضوا عليّ النوم في منزلهم شرط ألّا أبقى أكثر من ليلة. وهكذا صار. دخلت الغرفة التي قدموها إليّ، نمت وغادرت في اليوم التالي".

تكررت دعوة الطلاب للشاب الحزين مرارًا، إلى أن صار جان- بيار زميلًا دائمًا في منزلهم: "من خلالهم تعرّفت إلى مجتمع مختلف، فالطلاب وأصدقاؤهم يتناقشون في السياسة والشعر والفلسفة. كانت هديّتي يوم عيد ميلادي كتابًا للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه. تفتّحت عيناي على الحياة. اليوم، بعد أربعين عامًا، لا أزال على تواصل معهم، وكنت عرّابًا لطفل أحدهم. هم غيّروا حياتي".

صار ملاذهم
ارتأى بودهار أن ينقل تجربته إلى آخرين عاشوا أيضًا قسوة الأيام. وهو يمتلك اليوم بنايتين في فرنسا، يعيش فيهما حوالى عشرين شخصًا في غرف صغيرة، ويتقاسمون فيها مطبخين وأربعة حمّامات. من يقصدون غرف جان- بيار هم مشرّدون، لأنه يطلب أقلّ من مئة يورو في الشهر، وتهتم مؤسسات مختصة بتغطية التكاليف المتبقية.

لا يخفي أنّه يتعامل مع سكّان بنايتيه بقسوة أحيانًا ليساعد المشرّدين على التوصل إلى حلّ لوضعهم، ولكي لا تعمّ الفوضى في المكان، لا سيّما من ناحية النظافة والأمن. أي نصيحة يعطيهم؟: "أن يضاعفوا إيمانهم بنفسهم، وألّا يستسلموا. فالطريق ليس سهلًا"، كما يقول.

يعرف بودهار أن كثيرين من المشرّدين لا يريدون تغيير شيء في وضعهم. بعضهم مثلًا يستخدم غرفته مستودعًا لأغراضه، هؤلاء ليسوا أولويةً بالنسبة إليه: "ما أقدّمه ليس مشفىً، بل مساعدة بسيطة يجب أن تكون مرحلية. أصغي باهتمام إلى مشكلات كلّ منهم، وأحاول المساعدة قدر المستطاع، وفي أحيانٍ كثيرة أعجز عن فعل أي شيء".

فوق وتحت
شبّ حريق ضخم في داخل مركز يتمّ تأهيله لاستقبال مشرّدين في باريس. وبعد أشهر، تبيّن أن الحريق كان متعمّدًا. وفي العاصمة الفرنسية أيضًا تحركات رافضة لبناء مخيّمات للمهاجرين يلتزم المعايير العالمية.&

في فم بودهار ماء، تستفزّه اللامبالاة بأحوال الآخرين. تتغيّر نبرة صوته: "فلنضع أنفسنا مكان هؤلاء، وكفانا أنانيّة. يجلسون في ديارهم الدافئة، ويطلقون نظريات. أحلم بأن أهدي كلّ شخص ينتقد المطالبين بمساعدة اللاجئين بطاقة سفر ليذهب إلى بلدانهم ويعيش مأساتهم وحروبهم. عالمنا تنقصه الرحمة وقلوب من لحم ودم".

وعلى الرغم من تعاطفه الكبير، يعترف بودهر بأن مسائل كهذه يجب أن تُدرس بعناية وإنسانية وتوازن. يحمل كلامه لومًا كبيرًا يلقيه على من يجلسون "فوق"، ولا يعلمون بما يحصل "تحت": "هذه الدنيا، صفقات ومصالح وجشع، وأكثر".

بين فكرة وأخرى، يستشهد بأقوال وأعمال أناس تركوا بصمات من خلال أعمالهم الإنسانية، وهو لا يعلم أن ما يفعله ليس بعيدًا عمّا فعلوه قبله: "أعمل على نطاق ضيق بما لديّ من طاقة وإمكانات، لأغيّر ولو قليلًا في هذا العالم".