إيلاف من واشنطن: في خطاب مشحون بالعاطفة واليقين الديني، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن "الله لديه خطة عظيمة لأميركا... وأنا هنا لتنفيذها"، مؤكدًا أن إيمانه تعزز بعد أن "أنقذه الله" من حادثة إطلاق نار كادت أن تودي بحياته. لكن بينما يرفع ترامب راية الدفاع عن المسيحية، تثار تساؤلات حول من المستهدف حقًا في أميركا؟
التصريحات التي أطلقها ترامب خلال "الإفطار الوطني للصلاة" في مبنى الكابيتول لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل كانت رسالة واضحة مفادها أن المسيحية تتعرض لهجوم، وأنه وحده القادر على حمايتها. "علينا أن نقف وقفة رجل واحد لأن إيماننا يتعرض للهجوم"، قال ترامب، ليعلن بعدها عن إنشاء فريق عمل لمكافحة التحيز ضد المسيحيين، برئاسة المدعي العام بام بوندي.
إيمان متجدد
حادثة إطلاق النار التي نجا منها ترامب الصيف الماضي لم تمر مرور الكرام، بل أصبحت محورًا أساسيًا في خطابه الديني. "كانت يد الله التي أنقذتني"، قال الرئيس، مؤكدًا أن هذه اللحظة غيرت علاقته بالإيمان، ما دفعه لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة لحماية "الحرية الدينية" في البلاد.
لكن هل هذا التحرك نابع من قناعة دينية أم حسابات سياسية؟ بالنسبة لرالف ريد، رئيس تحالف الإيمان والحرية، فإن ترامب هو "الزعيم الذي يحتاجه المسيحيون اليوم"، مضيفًا أن الحكومة الفيدرالية "استهدفت الكاثوليك المحافظين وكأنهم خطر على الدولة".
من المستهدف فعلاً في أميركا؟
وفقًا لقاعدة بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي، فإن جرائم الكراهية ضد اليهود في الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس الماضية كانت أكثر بأربع مرات من تلك التي استهدفت المسيحيين. كما أن المسلمين يأتون في المرتبة الثانية بعد اليهود من حيث الاستهداف، بينما يتعرض الكاثوليك لمعدلات أعلى من جرائم الكراهية مقارنة بالطوائف المسيحية الأخرى".
وبينما يتحدث ترامب عن اضطهاد المسيحيين، تكشف بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي أن اليهود والمسلمين هم الأكثر تعرضًا لجرائم الكراهية. ففي السنوات الخمس الأخيرة، تعرض اليهود لأربعة أضعاف الاعتداءات مقارنة بالمسيحيين. كما تتزايد الهجمات ضد المساجد والجاليات الإسلامية، بينما تبقى الكنائس في منأى عن ذلك نسبيًا.
تصوير المسيحيين كضحايا رئيسيين يعمق الاعتقاد الخاطئ بأن المسيحية مهددة، بينما في الواقع الأقليات الدينية الأخرى تواجه الخطر الأكبر"
أماندا تايلر، المديرة التنفيذية للجنة المعمدانية المشتركة للحرية الدينية.
الحرية الدينية أم فرض الهيمنة؟
هل يقاتل ترامب لحماية الحرية الدينية أم لترسيخ المسيحية كقوة سياسية؟ وفقًا لدينيس بيتري، المدير الدولي للمعهد الدولي للحرية الدينية، هناك من يريد "إقصاء الدين تمامًا من الحياة العامة"، وهو ما يجعل ترامب يظهر كمدافع شرس عن العقيدة المسيحية.
لكن تايلر تحذر من خلط الحرية الدينية بالامتياز الديني. "مجرد أن القوانين لا تعكس العقيدة المسيحية بالكامل لا يعني أن المسيحيين مضطهدون"، تقول تايلر.
أماكن العبادة في مرمى النيران... لكنها ليست الكنائس فقط
لم تكن الكنائس المسيحية وحدها ضحية الهجمات العنيفة على أماكن العبادة في الولايات المتحدة، فالمعابد اليهودية والمساجد كانت أيضًا في مرمى نيران المتطرفين، مما يعكس تصاعد موجة التعصب الديني في البلاد. ففي عام 2015، شهدت كنيسة "إيمانويل الأسقفية الميثودية" في كارولاينا الجنوبية مجزرة مروعة عندما أطلق شاب متطرف النار على المصلين، موقعًا تسعة قتلى في هجوم هز المجتمع الأميركي.
لكن إذا كان هذا الهجوم قد صدم الرأي العام، فإن الجرائم التي استهدفت دور عبادة يهودية وإسلامية لاحقًا كانت أكثر دموية وأثارت قلقًا عالميًا. ففي 2018، دخل مسلح يحمل سلاحًا أوتوماتيكيًا إلى كنيس "شجرة الحياة" في بيتسبرغ خلال الصلاة، وأطلق النار عشوائيًا، ما أسفر عن مقتل 11 شخصًا، في واحدة من أكثر الهجمات فتكًا ضد اليهود في تاريخ أميركا الحديث. وبعد ذلك بعام، جاء الهجوم على مسجدين في كرايستشيرش بنيوزيلندا، حيث قُتل أكثر من 50 شخصًا، مما أثار موجة خوف بين المسلمين في الولايات المتحدة، وسط مخاوف من أن يتكرر السيناريو هناك.
في الوقت الذي تواصل فيه الهجمات على أماكن العبادة تصاعدها، يتساءل البعض عن مدى توازن استجابة الحكومة الأميركية. فبينما تسلط إدارة ترامب الضوء على "التحيز ضد المسيحيين"، يرى كثيرون أن الجرائم الأكثر وحشية استهدفت الجماعات الدينية الأخرى، ومع ذلك لم تحظَ بنفس القدر من الاهتمام السياسي والإعلامي.
استعادة "المجد الروحي" لأميركا
بالنسبة لترامب، فإن أميركا ليست فقط قوة سياسية واقتصادية، بل هي أيضًا أمة ذات رسالة دينية، يرى أنها تواجه خطرًا يهدد هويتها الروحية. طوال مسيرته السياسية، أكد ترامب أن القيم المسيحية كانت ولا تزال أساس ازدهار الولايات المتحدة، محذرًا من أن التراجع عن هذه المبادئ سيؤدي إلى انهيار المجتمع.
خلال خطابه في "الإفطار الوطني للصلاة"، شدد ترامب على أن "الله لديه خطة عظيمة لأميركا"، معتبرًا أن مهمته ليست فقط حماية الاقتصاد أو الأمن القومي، بل أيضًا إعادة بلاده إلى مسارها الروحي الصحيح. وأشار إلى أن إضعاف الإيمان في الحياة العامة أدى إلى زيادة الفوضى الأخلاقية والتفسخ الاجتماعي، مشددًا على أن الحل الوحيد هو إعادة الدين إلى مركز السلطة والقانون.
إعلانه عن تشكيل فريق عمل لمكافحة التحيز ضد المسيحيين جاء في إطار رؤيته لإحياء "المجد الروحي" للأمة. فهو يرى أن المؤسسات الليبرالية تحاول تهميش المسيحية وإقصاءها من المجال العام، معتبرًا أن هناك حملة منهجية لإضعاف القيم الدينية وإحلال العلمانية المتشددة بديلًا عنها. لهذا السبب، دعم ترامب سياسات تضمن حرية أكبر للمؤسسات الدينية، وتسمح بتمويل حكومي أوسع للمنظمات التي تستند إلى القيم المسيحية، بالإضافة إلى تعزيز دور الدين في التعليم العام.
لكن هذه الرؤية ليست محل إجماع. فبينما يراه أنصاره زعيمًا يخوض معركة مقدسة لاستعادة هوية أميركا المسيحية، يحذر معارضوه من أن سياساته تعكس محاولة لفرض هيمنة دينية على بلد يقوم على التعددية الدينية. ويرى منتقدوه أن الحرية الدينية التي يدعو إليها ترامب قد تتحول إلى أداة لتمييز طائفة معينة على حساب الأقليات الدينية الأخرى.
* أعدت إيلاف التقرير عن صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية: المصدر
التعليقات