خلف خلف ndash; إيلاف: تسللت ليلة أمس قوة من الجيش الإسرائيلي تحت جنح الظلام لمدينة نابلس في الضفة الغربية، حاصرت عمارة يقطنها طلبة جامعيون، اقتحمتها، اعتقلت سكانها، قتلت شابين، أحدهما ينتمي إلى سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، بعد ساعات أفرجت عن المعتقلين، وانسحبت، لكنها تركت خلفها خرابا وخوفا وقلقا يلف قلوب مواطني المدينة بأكملها. ليست هذه حادثة القتل والاغتيال الأولى التي تعيشها نابلس، بل إنها عايشت من الظروف ما هو أشد وأوسع عنفًا، أحدثت عند الكثيرين من السكان إحساسًا بأن الحديث عن تهديد مباشر وفوري لشخصه.
وعمليا معظم الفلسطينيين شاهدوا مصابين أو موتى أو جنازات، وهي صور غالبا ما ترسخ وتتوطد في ذاكرة الإنسان، ولا يمكن نسيانها بسهولة، بل تدخل في العقل، وتكون عاملا محددا لتفكير الفرد وسلوكه المستقبلي، ما يدفع العديد من المفكرين والباحثين الإسرائيليين للإعلان بين الفينة والأخرى، أنه في حال عدم النجاح في التوصل إلى سلام مع القادة الفلسطينيين الحاليين، سيكون ذلك مستحيلا مع الأجيال الفلسطينية القادمة التي عاشت ونمت في ظل قهر وكبت وقتل.
الحقائق على الأرض بدورها تدلل على أن غالبية الفلسطينيين تعرضت للاهانة أو الاعتقال أو الضرب، وبحسب إحصائية أصدرتها وزارة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين عام 2007 فإن ربع الشعب الفلسطيني تعرض للاعتقال منذ عام 1967، وهي أكبر نسبة في العالم، هذا إذا ما أخذنا في الحسبان، أن المعطيات ذاتها، تقول إن هنالك عشرات الآلاف ممن اعتقلوا واحتجزوا لساعات وأيام قلائل ومن ثم أطلق سراحهم.
وإن كانت مظاهر القتل والتدمير، تترك أثارًا بالغة على مجمل السكان، فأن للأطفال النصيب الأكبر من هذا الأثر، حيث تبين مثلا دراسات أعدها برنامج غزة للصحة النفسية أن 94.6% من الأطفال شاهدوا جنازات. و83.2% شاهدوا إطلاق نار، بينما 66.9% من الأطفال شاهدوا مصابين أو قتلى. هذه الأرقام عالية على نحو مفاجئ، وقد تشهد بشعور القُرب والمباشرة لدى كثيرين في فلسطين بأخطار الاحتلال الإسرائيلي، وبكون فلسطين، أيضا بمنزلة quot;قرية صغيرة (إعلاميا على الأقل)quot;.
ولكن التعبير البارز عن تأثر الفلسطينيين بمظاهر القتل والاغتيالات والاعتقالات، تتجلى على نحو واضح بشعور وإحساس غالبية الشعب الفلسطيني بالعجز، وانعدام الحماسية وبهجة الحياة، الذي يوصف كخيبة أمل لحد الكآبة بسبب غياب الحلول، ونقض الوعود، وعدم تحقيق أي من الشعارات التي رفعها قادتهم عبر مشوار التحرر، كقيام الدولة الفلسطينية أو استرداد الأرض. وفي مقهى المضافة في مدينة نابلس اشتعل النقاش بين مجموعة من الشبان، حول ترديد الفلسطينيين لشعارات أكبر منهم، جعلتهم يدفعون فاتورة ذلك على مدار العقود الماضية، فقال أحد الشبان قبل تركه لجلسة زملائه: quot;فيما مضى طالبنا بكل فلسطين، والآن نطالب بأراضي 67، وربما بعد عدة أعوام نطالب بأراضي 2000quot;.
وعادة ما يحن الفلسطينيون إلى الأيام الماضية، وتقويهم لوضعهم في الماضي أفضل من المستقبل، وهو ما تلمسه كاتب السطور من خلال أحاديث متفرقة من العديد من الأشخاص، وهو ربما يتجلى في غزة أكثر من الضفة، كون الأولى لفّها الحصار منذ منتصف العام الماضي، فترك آثارًا جمة على نفسية سكانها، وغير أنماط حياتهم في ظل الفقر المدقع، والبطالة التي وصلت إلى أرقام قياسية، فجاءت التهدئة التي تترنح حاليا لتنقذ السكان وتضعهم على الطريق الصحيح مجددًا، ولكن الجميع يتساءل في ما إذا كانت ستصمد لفترة طويلة، وبخاصة في ظل إصرار إسرائيل على مواصلة عملياتها في الضفة الغربية، وما يشكله ذلك من مسلسل ردود فعل، تنفذها المقاومة الفلسطينية، سواء من الضفة أو غزة.
ولكن رغم حالة الكآبة التي تخيم على الفلسطينيين، إلا أن قدرًا من التفاؤل يتواجد دائما في أحلك الظروف، وفي هذا السياق يوضح سليم (ن) الناشط في إحدى المنظمات الفلسطينية أنه رغم محاولات إسرائيل ضرب الإنسان الفلسطيني، إلا أنها لم تحقق ما تريده، ويقول: quot;لم نفقد بوصلتنا واتجاهنا، ولم نخرج عن اتزاننا، بل ما زلنا نناضل، ونطالب بحقوقنا رغم كل المحاولات المبذولة لقمعنا وإسكاتناquot;.
ويسجل للفلسطينيين أيضا مرونتهم العالية على امتصاص الضربات وتحديهم للواقع وصمودهم وتحملهم لكافة الصدمات، ويتمثل هذا الأمر في تسييرهم لحياتهم بشكل طبيعي رغم كافة المعيقات والحواجز، فبعد اجتياح إسرائيل للمدن الفلسطينية عام 2002، وتدميرها للبنية التحتية ظن الكثيرون أن الأمر قد قضي. بينما لم يستغرق الأمر عدة أشهر حتى عاد معظم الناس للبناء من جديد، وأثبت الفلسطيني قدرته العالية على التكيف ومواجهة التهديد المقلقل، والتخلص من أثاره بعد زمن قصير من زوال المسبب.