لمتابعة أخر أخبار تونس أنقر على الرابط التالي:

ربما تكون نظرية المؤامرة التي يبرع بها العرب أكثر من غيرهم، هي التي تكمن خلف تردد نخب سياسية وإعلامية حول الوطن العربي، في تصديق القصص الآتية من تونس، ووسط مخاوف بالغة من أن تكون تلك القصص مجرد quot;حبكةquot; يمكن بعدها الإستفاقة على إلتفافة من نوع ما.


انتقلت الأنظار في الساعات الأولى من العهد التونسي الإنتقالي الجديد الى الدستور التونسي الذي تعرض خلال العقود الخمسة الماضية الى تنقيحات تعلقت جميعها بتحصين صلاحيات الرئيس، وتعميقها، في حين كان آخر تنقيح يتعلق برفع القيد عن عدد المرات التي يحق فيها للرئيس الترشح لمنصب الرئيس كل خمسة سنوات، إلا أن التمعن في مواد الدستور التونسي الذي إستند إليه العهد الإنتقالي التونسي الجديد يكشف بصورة فورية عن خرق لمواده، وتجاوز على بعض الخطوات اللازمة لشرعية الإنتقال، وهو الأمر الذي قد يبقي جذوة الغضب التونسي الشعبي مشتعلة، الى حين نضوج الوضع العام، حيث ظل ملتبسا على وقع الإستناد الى المادة (57) من الدستور.

والتدقيق في منطوق المادة الدستورية التي بنى عليها الوزير التونسي الأول محمد الغنوشي، إعلانه تناول صلاحيات الرئيس بصفة وقتية، يكشف بأن العناصر الثلاثة التي حددتها المادة المشار إليها لم يقع منها شيئا على أرض الوقائع، فالوفاة والإستقالة والعجز التام هي عناصر لم تحضر في غياب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بل على العكس تردد تونسيا بأن الرئيس التونسي قد فوض إختصاصاته الى الوزير الأول قبل ساعتين من مغادرته بصورة غامضة بقرار رئاسي حمل إمضائه، قبل غيابه عن المشهد التونسي، وبعد أن التقى الغنوشي الى جانب وزيري الداخلية والدفاع، وبعض كبار الجنرالات في الجيش والإستخبارات، وهذا يعني أن الرئيس سافر وفق تسوية ما لا تزال عناصرها غير واضحة وغامضة الى أبعد حد.

الوزير التونسي الأول الذي تلى كلمة مقتضبة قيل أنه متفق على مضمونها سلفا لم يتحدث عن تنحي الرئيس التونسي، ولا تخليه عن صلاحياته، ولا عن إستقالة قانونية تنهي صفته رئيسا دستوريا لتونس، وهو الأمر الذي يعني دستوريا بأن هبوط طائرة بن علي في مطار تونس في أي لحطة تعني حقه في إسترداد سلطاته كاملة، فهو لم يتنازل عنها، كما أن كل تطورات ومجريات الأمور حتى لحظة كتابة هذا التقرير تشير الى أن ما يحدث في تونس أو أقرب الى خرق الدستور، وعدم وجود إنتقال دستوري، كون تنحي الرئيس أو إستقالته لم تظهر في أي من الأحداث التونسية أمس، حتى أن كبريات وكالات الأنباء العالمية قد أظهرت حيرتها وهي تستخدم مصطلحات من قبيل (هروب الرئيس) و (تنحي الرئيس) و (الإطاحة بالرئيس)، قبل أن تعود للخلط بين تلك المصطلحات جميعا، دون وجود إصطلاح دستوري يعالج ما حدث في الداخل التونسي أمس.

ويقول مراقبون تونسيون بأن الإطاحة برئيس ما يعني وقف العمل بالدستور أو تعليق بعض مواده، بيد أن تولي الغنوشي إختصاصات الرئيس جاء وفقا لركون غير موفق الى مادة دستورية حصرت إنتقال الرئاسة في توافر أحد ثلاثة عناصر وهي الإستقالة والوفاة والعجز الصحي التام، وهو أمر لم يحدث، وسط إنطباعات بأن هذا الإنتقال جاء كإستحقاق لأحد إحتمالين لا ثالث لهما: فإما أن الأمر قد رتب للإلتفافة على ثورة الشارع التونسي، ولإطفاء لهيب غضبه عبر حبكة صنعت في دوائر أمنية وإستخبارية، وسيستفيق التونسيين على أنباء مصادرة ثورتهم، أو أن الرئيس التونسي سيعلن تنحيه لاحقا عبر إستقالة للشعب التونسي، مواصلا الحكم عبر أشخاص صنعهم وأدوات له في الداخل، وهو أمر قد لا يمر مرور الكرام، إذ ستعقبه تجديد الثورة حتى الوصول الى وضع من الوضوح يسمح للتونسيين بالإنخراط في صناعة القرار، بعد أكثر من نصف قرن أعقب الإستقلال ولم يحظ التونسيين فيه إلا برئيسين تميز عهديهما بالقمع ومصادرة حق المعارضة في الوصول الى سدة السلطة، والتضييق على الحريات.

وأكثر ما يمكن ملاحطته في الوقائع التونسية في الساعات الأخيرة من عهد بن علي، والساعات الأولى من العهد الإنتقالي أن العسكر وجنرالاته قد ظلوا بعيدا عن المشهد الداخلي، ولم يتدخل إطلاقا في فرض تدابير سياسية أو دستورية، وفي الظهور الرسمي اليتيم لمالك صلاحيات الرئيس والمقصود هنا الغنوشي فإن العسكر لم يظهرو الى جواره أبدا، وهذا يعني أن العسكر إما قد إشتركوا خلف الكواليس في ترتيب حبكة ما ربما تعيد بن علي الملتبس وضعه دستوريا رئيسا للبلاد بعد تهدئة ما، أو أنه يعد لترتيبات ما بعد إستقرار المشهد الداخلي، كوضع اليد على مقاليد السلطة، والسير بالبلاد الى مسار جديد، غير مسار الغنوشي الذي قد يراه المنتفضون التونسيون إمتدادا لنظام بن علي.

ومع شيوع عمليات نهب منظم وإعتداء على الممتكات في أكثر من مدينة تونسية، وبصورة تقول المعارضة أنها لا يمكن إلا أن تكون من تدبير نظام الرئيس المخلوع، فقد إنتعشت في الأوساط العربية نظرية المؤامرة التي تقول أن كل ما حدث في تونس ليس سوى غيبوبة إصطناعية للشعب التونسي لجأ إليها النظام لتثبيت وقائع وترتيبات جديدة قد تفضي في نهاية المطاف الى رؤية طائرة بن علي تعود مجددا الى تونس العاصمة.