عراقيون يقطعون النهر بقوارب صغيرة

يعمل بعض العراقيين في مهنة نقل السكان من ضفة نهر دجلة إلى ضفته الأخرى، إلا أن هذه المهنة تواجه خطر الانقراض بسبب قائمة الممنوعات التي وضعتها السلطات العراقية لاعتبارات قالت إنها أمنية.


من اجمل ما يمكن ان يصادفه المرء في بغداد ويستمتع حتى بمجرد النظر اليه، هو مشهد الزوارق الصغيرة التي تصطف على شاطئ نهر دجلة، وتتحرك بانسيابية، قاطعة النهر وهي تنقل الناس من ضفة الى اخرى، لا سيما في المنطقة الممتدة من جسر الاحرار الى جسر باب المعظم، في تلك الامكنة البغدادية القديمة، منظر يدفع الناظر الى تأمل واقع الشاطئ الذي يسمونه (الشريعة) من تضاريس وطقوس بهيجة، وحيث حركة الناس الذين ينتقلون من جانب الكرخ الى جانب الرصافة.

لكن الاقتراب من هؤلاء العاملين على هذه القوارب يجعلك تسمع منهم شكاوى ومعاناة تدعوك الى ان ترتد بنظرك من النهر الى الشاطئ لتسمع منهم، وقد انحسر الماء وكثرت الممنوعات، وغادرت الاسماك النهر، وهو ما جعل الصيادين يغادرون المكان او يتحولون الى مهن اخرى بعدما اصبحت المهنة الجميلة مهددة بالانقراض.

ومهنة quot;العبّارةquot; ليست جديدة على نهر دجلة، فهي قديمة قدم النهر.. بل ان هؤلاء الاشخاص الذي يسمون بـ quot;البلّامةquot; يهتمون بإقامة جولات للنزهة في النهر لمن شاء ان يتنزه من الناس مقابل مبالغ رمزية، وهذه المهنة يمارسها بالتأكيد الذين بيوتهم قريبة من النهر تحديدًا، وقد توارثوها ابًا عن جد وتعلموا ابجدياتها مثلما اتقنوا السباحة. وليس غريبًا ان تجد بينهم من اصبح غواصًا.

يقول احمد هاتف جواد: منذ 40 عامًا وانا اعمل قرب النهر، انقل الناس بـ (بلمي) من هذا الصوب الى الصوب الاخر وبالعكس، هذه المهنة توارثناها ابًا عن جد، حيث نسكن هنا، في الكرخ، ونعمل هنا.. ايام كان مستوى الماء مرتفعًا جدًا، ولكن للآسف منذ عام 2003 والى الآن بدأ انحسار الماء، واثر على مهنة السماكة والصيادين، واصبح الآن كل شيء ممنوع، ممنوع علينا ان نصل الى جسر الاحرار والصالحية، وممنوع علينا الوصول حتى الى الجهة المقابلة بخط مستقيم، القريبة من البنك المركزي.

كثر الممنوع، بل ان الجهات الامنية عملت لنا اجازات خاصة، ومع ذلك هي غير معترف بها من قبل الجيش الموجود هنا، يقولون (خطة امنية) بعدماوقع حادث في البنك قبل سنة او اكثر.

واضاف: نحن آلان ننقل الناس الى مسافة ابعد مما يريدون، وليس في المكان المفضل لديهم المقابل لسوق الشورجة او شارع النهر، لذلك اصبح عدد الناس هنا قليلاً جدًا لانهم لم يستفيدوا من العبور، اصبحوا يعبرون على جسر الشهداء، وانقطع رزقنا منذ نحو عشرة اشهر، يقول افراد في الجهات الامنية انهم يخافون من الاشخاص الذين يعبرون من النهر، ونحن نقول أليس لديهم حواجز تفتيش وجنود.

وتابع احمد: كان الواحد منا يحصل على رزق طيب يصل الى ثلاثين الف دينار (نحو 25 دولار) يوميًا، وان كانت الاجرة بـ(250) دينار فقط، بينما الآن الاجرة 500 دينار، ولا يصل رزقنا اليومي الى 15 الف دينار.

اما زميله عمران فقال: منذ الصغر ونحن نعشق النهر، واستفدنا من آبائنا وأعمامنا الذين يعلمون صيادين وعبارة في هذه الزوارق الصغيرة، وقد كانت منطقة الشواكة مشهورة بمعدات الصيد، وكانت متعتنا كبيرة ونحن نعيش قرب النهر ونسبح في مائه، لكن الامور تغيرت، وها انت ترى بعينيك كيف اصبح الماء قليلاً ولا يوجد صيادون، فماذا يصطادون اذا لم يوجد سمك، والكثيرون منهم امتهنوا مهنًا اخرى.

واضاف: الناس تعبر النهر للاستمتاع، ومنهم من يتنزه بجولات في النهر، ولكن الحدود المسموح بها اصبحت صغيرة جدًا. واما في عملية نقل الناس من هذه الجهة الى الاخرى فبسبب زحام الشوارع وفوضى الاسواق والارصفة فالناس تفضل ان تعبر الى الشورجة من اقرب مكان اليها، فيتبضعون ثم يعودون ليعبرون مرة اخرى، ونحن رزقنا مستمر، ولكن ظهرت ممنوعات جعلت المسافة تصبح بعيدة فزادت الاجرة، نحن نستهلك خلال مرة لترًا من البنزين.

وتابع: الناس لا ينفعهم العبور الآن بسسب طول المسافة، فيفضلون عبور الجسر الا الذين اعتادوا على العبور بالبلم او الذين يعشقون التنزه في النهر، فالاماكن المحددة لنا ما قبل جسر الاحرار والى ما قبل جسر باب المعظم، بينما كان النهر مفتوحًا، لمن نقدم الشكوى الآن والصحف لن تعمل لنا شيئًا وكثيرًا ما اشتكينا ولم نجد حلاً.

اما عامر مجيد فقال: صار لي سنة في مهنة العمل على الزورق، وانا في الاصيل صياد سمك، ولكن تركت مهنة الصيد بعدما اصبح وجود السمك في النهر نادرًا، وذلك بسبب الماء القليل في النهر، عدد البلامة هنا اكثر من 40 شخصًا يعملون بالدور احيانًا، يأتي شخص واحد فنعبره ان كان على عجل من امره، البلم يحمل اربعة اشخاص من اجل ان يأتي الدور على الجميع.

كان الموظفون يعبرون من هنا والتجار والذين يذهبون للتسوق من سوق الشورجة وشارع النهر لان المكان الذي ننقل اليه الناس يكون في قلب المنطقة، ولكن الان اغلقوه في وجوهنا، نحن لا حول لنا ولا قوة، وهو ما اثر على رزقنا، حيث قل عدد الناس الذي يعبرون الى اكثر من النصف، وهناك من يأتي فقط للتنزه في النهر، ويأخذ جولة هو وعائلته في ايام الاعياد وفي العطل المدرسية.

واضاف: الان الحوادث في النهر قليلة جدًا، ربما كل خمس سنوات يحدث حادث مثل اصطدام بين قاربين بسبب الغفلة، منذ سنوات لم نشهد احدًا ينتحر برمي نفسه من فوق الجسر، ربما لان النهر اصبح ماؤه شحيحًا!!، ولكن عندما كانت الحرب الطائفية كانت هنا اشكال من الجثث تطفو امامنا واحيانًا نبلغ الشرطة النهرية لإخراجها، وهذه اصعب المناظر التي شاهدناها في النهر الذي قال عنه الجواهري (يا دجلة الخير يا ام البساتين).

اما جاسم السماك فقال: منذ سنوات طويلة وانا هنا اعمل، وقد تعلمت ذلك من ابي وعمي، انا اشعر بالسعادة حين اجد نفسي انسانًا حرًا أصيد السمك متى ما شاء، وامامي جمال الطبيعة والنهر، فنبيع السمك وما بقي منه نأخذه للبيت، لكن الظروف تغيرت كثيرًا، اصبح حال النهر مؤسفًا ولا اسماك فيه، نجلس بالساعات ولا نصطاد شيئا، ذهب السمك، فتحولنا الى (بلامة) نعمل على نقل الناس من هذا الكرخ الى تلك الرصافة، لاننا لا نستطيع ان نفارق النهر، وليس لدينا غير هذه المهنة، ومع ذلك العديد من (البلامة) تركوا المهنة لانها لم تعد تنفعهم.

واضاف بعدما صمت قليلاً: حتى في رزقنا القليل اصبحنا محاربين، فالممنوعات اصبحت تحرمنا من رزقنا وقوت عوائلنا، يعتقدون اننا اصبحنا خطرًا على الامن، فلا يسمحون لنا ان نصل الى الشريعة المقابلة التي هي قريبة من قلب شارع النهر والشورجة بحجة ان الارهابيين يعبرون من هنا الى هناك بعدما حدث انفجار قرب البنك المركزي، وطلبنا ان يعطوننا حلاً لكي نبقى نمارس هذه المهنة ونعيل عوائلنا ولكن كل شخص يضع المسؤولية على الثاني واقترحنا ان تكون هنالك سيطرة تفتيش تابعة للجيش، ولكنبلا فائدة، وما زلنا نذهب بالناس الى الطرف القريب من جسر الاحرار الذي لا يستفيد منه الناس لكونه بعيدًا، وها انت ترى الزوارق متوقفة، ونحن ننتظر ان يمنّ الله علينا بالعابرين او المتنزهين.