وجد الإعلاميون والصحافيون أنفسهم فجأة متهمين بإهانة القضاء، بموجب 1064 بلاغًا تقدم بها قضاة ضد العشرات منهم. ومن دون مقدمات، شعر أولئك الإعلاميون أن حرية الرأي والتعبير، التي دفع 846 مصريًا حياتهم ثمنًا لها، تتسرب من بين أيديهم كما يتسرب الماء من الكفين.


القاهرة: لم يتخيل الإعلاميون وهم يمارسون حقهم المكفول بموجب الدستور والمواثيق الدولية في النقد من أجل الصالح العام، أن يتحولوا إلى جناة، وأن يكونوا في يوم ما خصومًا للقضاة، الذين من المفترض فيهم أن يحموا ظهورهم وهم يكافحون من أجل استقلال القضاء، إيمانًا بأن استقلاله جزء من استقلال الأوطان.
في المقابل، يؤكد القضاة أن القانون يرسم الطرق التي يمكن من خلالها التعليق أو نقد أحكام القضاء، مشيرين إلى أن حرية الرأي والتعبير ليست مبررًا للتجريح في القضاة والنيل من هيبتهم وكرامتهم.

الإعلاميون أمام التحقيق

خضع إعلاميون وناشطون حقوقيون وسياسيون لتحقيق امتد لساعات، من قبل المستشار ثروت حماد، قاضي التحقيق المنتدب من قبل وزارة العدل، في البلاغات المقدمة من 1064 قاضيًا ضد صحافيين وإعلاميين يعملون في صحف أو قنوات فضائية رسمية وخاصة، بتهم تتعلق بإهانة القضاء، وعلى رأسهم الدكتورة هالة سرحان، مقدمة برنامج ''ناس بوك'' على قناة روتانا، والإعلامي وائل الإبراشي مقدم برنامج quot;العاشرة مساءquot;، والناشط السياسي والصحافي عبد الحليم قنديل، والناشطان الحقوقيان ناصر أمين وأمير سالم، إضافة إلى الإعلامية ريم ماجد، وألبرت شفيق مدير عام قناة أون تي في، وعدد من مقدمي ومعدي البرامج.
وقالت مصادر قضائية إن البلاغات تشمل نحو 78 صحافيًا وإعلاميًا، مشيرة إلى أن أنها تضم إعلاميين آخرين مثل محمود سعد، وخيري رمضان وعمرو أديب وخالد صلاح ومنى الشاذلي وائل قنديل.
وأضافت المصادر أن التهم التي حملتها البلاغات تتضمن إهانة القضاء أو السماح للضيوف بإهانة القضاء. ولفتت إلى أن هذه البلاغات مقدمة منذ صدور الأحكام القضائية في قضية قتل المتظاهرين في الثاني من شهر حزيران (يونيو) الماضي، وفي أعقاب هروب الأميركيين والأجانب المتهمين في قضية التمويل الأجنبي. وقالت هذه المصادر إن النائب العام إضطر إلى تحريك تلك البلاغات استجابة لضغوط قوية مورست عليه من قبل القضاة، لأن التغاضي عن التعاطي مع البلاغات يكسر هيبة القضاء أمام الناس، ويجعل العامة يتجرأون على القضاة.

دفعة جديدة من البلاغات

أضافت المصادر أن القضاة تقدموا بمئات البلاغات ضد صحافيين وإعلاميين جدد في أعقاب صدور الأحكام بالبراءة بحق 24 من رموز نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك في قضية موقعة الجمل، وما زالت البلاغات تتوالى، لا سيما بعد أزمة النائب العام التي نشبت في أعقاب صدور قرار بتعيينه سفيرًا لمصر في الفاتيكان. وأشارت إلى أن المستشار أحمد الزند، رئيس نادي القضاة، يقود الحملة ضد الإعلاميين والصحافيين المصريين، من أجل حماية القضاة والحفاظ على هيبة القضاء. كما لفتت إلى أنه توعد بمقاضاة كل من يتطاول أو يتعرض للقضاة أو أحكامهم القضائية بالنقد بغير الطريق الذي رسمه القانون، ويتمثل في الطعن على الأحكام أمام المحاكم المختصة.

قلق على حرية الإعلام

بحسب وجهة نظر الخبيرة الإعلامية الدكتورة فريدة الشوباشي، يتمتع القضاء المصري بالنزاهة والشفافية والإستقلال، لكن في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون انتقاد القضاة تهمة لأنهم ليسوا ملائكة. وقالت الشوباشي لـquot;إيلافquot; إن حرية الرأي والتعبير من أكبر وأهم إنجازات ثورة 25 يناير التي صنعها المصريون بدمائهم، مشيرة إلى أنهم لن يتخلوا عنها مهما كلفهم الأمر.
ولفتت الشوباشي إلى وجود هجمة شرسة ضد الإعلام في مصر، تقودها جماعات الإسلام السياسي والقضاة. وأوضحت أن أي تعرض بالنقد لسلوكيات جماعات الإسلام السياسي يوصف بأنه إساءة للإسلام. وفي حالة التعرض بالنقد لأحكام بعض القضاة، توجه إلى الإعلاميين والصحافيين تهمة إهانة القضاء.
وأعربت عن شعورها بالقلق حيال حرية الرأي والتعبير في مصر في ظل تنامي العداء للإعلام من قبل القضاة وجماعات الإسلام السياسي.

لا لإهانة القضاة

من جانب آخر، قال المستشار محمد عبد المنعم، القاضي في محكمة دمياط، لـquot;إيلافquot; إن حرية الرأي والتعبير مكفولة في ما يخص نقد الأحكام القضائية أو التعليق عليها، شريطة عدم الخوض في شخص القاضي أو هيئة المحكمة، مشيرًا إلى أنه إذا تخطى الصحافي أو الإعلامي حدود النقد إلى التجريح في شخص القاضي أو هيئة المحكمة يقع في دائرة الإتهام بإهانة هيئة قضائية. ونبه عبد المنعم إلى أن القانون رسم حدود الطعن على أحكام القضاء عبر النقض أو الإستئناف.
ورفض عبد المنعم أية تفاهمات بين الإعلاميين والصحافيين من جانب والقضاة من جانب آخر، للحفاظ على حرية الرأي والتعبير واستقلال القضاء وعدم الوقوع في تهمة إهانة هيئة قضائية. وقال: quot;يجب أن يعرف كل إنسان حدوده، ولا يتخطاها، فلا يجوز أن يسقط الصحافي أو الإعلامي في فخ إهانة أو تجريح القاضي جريًا وراء شهوة النقد أو السبق الصحافيquot;.
ولفت إلى أن القضاة يمارسون عملهم بحسب القانون، ولا يعتدون على حقوق أي فئة من المجتمع، ولا ينبغي التعرض لهم أو لأحكامهم إلا من خلال السبل التي رسمها القانون، وتتمثل في نقض الأحكام القضائية أمام القضاء نفسه. وأضاف أن العقاب الذي ينتظر الإعلاميين أو الصحافيين في حالة إدانتهم بتهمة إهانة هيئة قضائية هي السجن.

الإعلام والقضاء معًا

وعلى النقيض من عبد المنعم، يناشد المستشار طارق السعيد، رئيس محكمة جنح مستأنف، زملاءه القضاة سحب البلاغات ضد الصحافيين. وقال لـquot;إيلافquot; إن القضاة يحترمون الإعلام، مشيرًا إلى أن الإعلام ساند القضاة في مواقف عديدة، وحرص على إبراز أهمية استقلال القضاء. وأضاف: quot;عندما يتعارض موقف الإعلامي مع القانون يتم ترجيح كفة القانونquot;، لافتًا إلى عدم جواز التعليق على حكم قضائي إلا من قبل أصحاب الشأن، أي المختصمين.
وأشار السعيد إلى أن الأحكام القضائية التي صدرت بحق المتهمين في قضايا قتل المتظاهرين تؤكد أن القضاء المصري مستقل عن السلطة. ودعا الإعلام إلى الرفق بالقضاة وعدم التجريح فيهم أو التشكيك في أحكامهم القضائية، لأنها نابعة من ضمائرهم، وأنهم لا يبغون سوى إقامة العدل بين الناس.
في الوقت نفسه، دعا السعيد القضاة إلى التنازل عن بلاغاتهم ضد الصحافيين والإعلاميين، quot;حتى لا يبدو للناس أن هناك صراعًا بين الإعلام والقضاء. كلاهما يتكاملان ولا يتصارعان، فالإعلام يحافظ على استقلال القضاء والأخير يحمي حرية الرأي والتعبيرquot;.