بعد عام من الانتفاضة في أنحاء البلاد ما زالت دمشق واحة من الهدوء النسبي، ولكن الوضع فيها ليس كما كان في السابق. فإن شروخا ظهرت في جدار الخوف رغم احتفاظ الأسد بالسلطة واستمرار الأجهزة الأمنية في ملاحقة المحتجين والمعارضين المسلحين.
لندن: يتجمع الدخان كثيفا في مقهى الحي ويحتسي رواد المقهى من الشباب كؤوس البيرة على موائد خشبية لزجة. ويحتدم نقاش ساخن حول الانتفاضة السورية.
صاحب البار يسمي الثوار بلطجية يعيثون فسادًا في المدن والبلدات، فيردّ شاب من الجالسين أن المتظاهرين لا يريدون إلا التغيير والحرية. وتبادل آخرون الآراء حول الرئيس بشار الأسد والمستقبل الغامض.
إنه مشهد غير مألوف في دولة بوليسية تحصي على مواطنيها أنفاسهم. فإن سوريا نظام كان المواطن طيلة العقود السابقة يتعرض فيه الى خطر الاعتقال لانتقاده الحكومة بصوت عال.
وقالت الناشطة فرح التي اكتفت بإعطاء اسمها الأول لصحيفة لوس انجيليس تايمز إن السوريين يتحدثون بالسياسة الآن دون أن يبالوا بعد الآن. وأضافت quot;أن بإمكان المرء أن يجلس في مقهى ويسمع الناس تتحدث عن المعارضة، وقبل عامين كان عليك ان تبدأ بالهمس في المقهى حين تتحدث عن مواضيع كهذه، اما الآن فيمكن الحديث بصوت عالquot;.
وفي مقهى أحد الفنادق أبدت الصحافية الشابة سارة إستهانة بعملية الإصلاح التي أعلنها الأسد دون أن تكترث بأن الآخرين يسمعون ما تقوله. وقالت سارة إن المواطنين quot;يحتجون في الشوارع متحدين الرصاص والقناصة فلماذا يخاف المرء من قول كلمتينquot;.
ولكن الخوف ما زال مبثوثًا في المدينة، وقلة يوافقون على استخدام اسمائهم الحقيقية في النشر. فإن خطر الوشاية يبقى مقيمًا وقد تعرض آلاف الى الاعتقال.
في هذه الأثناء، اقترب مد الانتفاضة إلى وسط دمشق نفسها. وفي شباط/فبراير تظاهر آلاف المحتجين في حي المزة الذي لا يبعد كثيرا عن مقر السلطة. ومؤخرا اندلعت معركة بالأسلحة النارية في الحي نفسه، وهو حدث نادر في العاصمة.
ورغم ان دمشق ما زالت تعج بالحركة وضجيج المدينة المعهود، فإن الجو يشوبه إحساس بالترقب والقلق. وأصبحت صور الأسد وملصقاته أقل انتشارا وكذلك الاعلانات الكبيرة التي تحمل العلم السوري داعية الى الوحدة ومحذرة من الانقسام والفتنة. وازداد الاحساس بانعدام الأمن بعد سلسلة من التفجيرات في دمشق آخرها في 17 آذار/مارس.
وتثير الانتفاضة ردود افعال متباينة. فالبعض ممن شاركوا في تظاهرات سابقة منذ عام مطالبين بالإصلاح يقولون انهم توقفوا عن المشاركة بعد خيبة أملهم بتحول الحركة من احتجاجات سلمية الى نزاع مسلح. ويؤكد آخرون ان الانتقال حتمي.
وقال المحامي انور بني الناشط في مجال حقوق الانسان الذي أنهى قبل أيام حكما بالسجن خمس سنوات لإطلاقه تصريحات عن سوريا أن النظام السوري سيواصل القتل إذا لم يوقفه أحد. ونقلت صحيفة لوس انجليس تايمز عن بني قوله quot;ان النظام سيقتل الجميع إذا نزل الجميع الى الشوارعquot;.
وأضاف quot;إن أشد ما أخشاه هو بقاء النظام وحينذاك سيموت الناس بهدوءquot; في حين انهم quot;الآن على الأقل يموتون أمام العالمquot;. ولكن النظام ما زال يتمتع بقاعدة صلبة من المؤيدين وخاصة بين الذين يخافون من الفوضى أو مجيء اسلاميين متطرفين الى السلطة بعد إسقاط الأسد. ويشعر بالقلق على الأخص المسيحيون وغيرهم الأقليات الأخرى.
وقال علي وهو سوري في الأربعينات يملك مشروعًا صغيرًا انه quot;ليست هناك ثورة بل عصابات إجرامية مسلحة فقط، وهم يحاولون اثارة الانقسامات بين المسيحيين والمسلمين وعلى الجيش ان يحاربهمquot;.
وفي محل محمد لبيع الهدايا السياحية في السوق القديمة تتوالى نظريات المؤامرة. وقال محمد quot;انها معركة على سوريا ومَنْ.... سيحصل على القطعة الأكبر من الكعكةquot;. ونقلت صحيفة لوس انجليس تايمز عن محمد اتهامه الغرب بدفع قطر والمملكة العربية السعودية الى موقفهما من النظام السوري.
ورغم الانتفاضة المستمرة يحاول النظام ان يحافظ على مظاهر توحي بأن الوضع طبيعي. فإن إعلانات الخدمة العامة تشجع على استخدام أكياس النايلون التي يمكن تدويرها بدلا من أكياس البلاستيك. وما زالت المقاهي الراقية والمطاعم والأندية الليلية تزدحم بالروّاد في عطلة نهاية الاسبوع.
ويبدو ان بعض السكان يعيشون في حالة إنكار في وقت دخلت الانتفاضة عامها الثاني. إذ قالت امرأة ذات مكياج كثيف، ترتدي سترة شبابية بأربع ياقات وهي تركب سيارتها انه quot;ليس هناك ما يدعو الى القلق في المدينةquot;. وحين سُئلت عن الانتفاضة سارعت الى تغيير الموضوع وبدأت تتحدث عن ذهابها لشراء جرو من مربي كلاب.
ولكن الشروخ في الواجهة تصبح ظاهرة كل يوم. فالأزمات مزمنة وتصطف في بعض الشوارع والطرق غالونات مختلفة الألوان لشراء الوقود. ويكون الانتظار طويلا. ويستمر انقطاع الكهرباء عدة ساعات يوميا في قلب العاصمة، و12 ساعة في الضواحي. ويقول سكان أكثر فأكثر انهم يلازمون بيوتهم ليلا بسبب الوضع الأمني.
ومع اشتداد العقوبات الدولية يتردى الوضع الاقتصادي، كما يقول اصحاب مصالح. والسوق القديمة التي كانت تزدحم بالسياح تبدو مقفرة اليوم. وعرض صاحب متجر دفتر حسابات مليئا بالصفحات الفارغة وقال ان الاقتصاد ليس سيئا بل quot;صفرquot;.
وعمدت السلطات الى وضع كتل الكونكريت وأكياس الرمل امام المباني العسكرية. ويتجول حولها رجال أمن بملابس مدنية في الخارج مسلحين بالكلاشنكوفات. ويبقى الخوف دفينا بين كثير من السوريين.
يقول عادل وهو سوري في الخمسينات يملك بقالية انه يؤيد الحكومة منذ زمن طويل لأنها حققت الاستقرار لسوريا ولكنه يضيف والقلق ظاهر في عينيه انه لم يسمع شيئا عن ابنه ذي العشرين عاما منذ اعتقاله قبل شهرين. ويتردد عادل في السؤال عن مصير ابنه خشية ان يأتي رجال الأمن ويعتقلوا مزيدا من افراد العائلة.
وقال عادل quot;انهم ينظرون الى اشخاص مثل ابني وكأنهم صراصرquot; وان quot;امه تبكي كل يومquot;.
التعليقات