يستعمل العراقيون الآن، وبشكل واسع، بعض الكلمات التي تعني لهم الكثير، إنها في معناها العميق مطالب من اجل فك الحصار الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد 9/ 4/ 2003. ومنذ الساعة الطائفية الاولى التي قررّ الاميركان بموجبها تقسيم

تنبيه

المطاردة: بكسر الراء وفتحها في الوقت نفسه لدلالتها المزدوجة فهي اسم فاعل واسم مفعول ومعناها في السياق: نطاردها وتطاردنا، وهذا متعلق باسطورية البداية النهاية التي يقترحها بعض المؤرخين من حيث كونها مفهوما إجرائيا.

المجتمع وديانته بشكل سطحي (: هامشي وترقيعي على طريقة الدلالة الغربية للطائفة: sect) كانت له وما زالت مصاحبات ليست مأمونة ولم يكن ذلك التقسيم مما لا بد منه. إن إحدى الكلمات المعنية هي: المواطنية، أو المواطنة، وما يتعلق بها من مفهوم المواطن والوطن وكذلك الحقوق والواجبات. ثم العدالة وما يصطحبها من التعليقات على المحاصصة بتفريعاتها (: هذا لك كلك، وكل هذا لي.) ثم (الديموقراطية؟) التي اتخذت بقرار مرتجل، وغير داخلي ّ، مما يعني شكليتها التي يسهل ان تصير امرا مرجوعا عنه. ثم ّ وسط هذا ترتفع اصوات تدعو الى تأسيس الدولة، في ظل دستور ينص في احدى فقراته على وجوب مراجعته في مدة معلومة ولم يتم هذا الالتزام الدستوري. وهناك نقاشات، مرتبكة وعقيمة حول دولة المؤسسات، وهل تسبق الدولة المؤسسة، ام هذه تسبق تلك، وكل شيء من دلالات هذه الالفاظ وغيرها، ذات القيمة والعمق، يضيع في التسابق على الحكم الذي لا يعرف معظم الحكام انهم يمارسونه، كما لايعرفون، كما يجب، ان الحكم يعني دائما انه اكثر من مجرد سلطة.
ان مما قد يدخل في محيط الاسف هو ان الجميع، وربما الاميركان انفسهم، سيكتشفون انهم انما كانوا يطاردون اسطورة اثاروها، منذ اسسوا الركن الطائفي في الادارة الانتقالية، فالعراقيون ذهبوا الان في التساؤل الحميم عن هويتهم المستغرقة، وليس عن حالات مأساوية وجدوا تراجعها، بعد ان شملتهم وحشيتها، في صفوف طوائفهم، بحيث انكمشت في احزاب ضيقة الافق لا تعبر الا عن: الاليات المعطلة والا عن استنفاد محدودية التجربة الطائفية، وكان المكر غطاء مقززا للتجربة المثبطة، المتقهقرة.
ولكن كيف يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟.
تعود كلمة المواطن (citizen) بقوتها القانونية والفلسفية الى ذهن المواطن البسيط، وتعود معها المسكوكات ذات العلاقة: العدالة، المجتمع السياسي (النظام الديمقراطي؟)، المحاصصة، الدولة،... الخ...؟، وكما قلت في البداية، فان العراقي يشعر انه متضايق.. ولا بد من حل هذا الضيق.
المواطن بالتعريف هو الذي له حقوق المواطنين في دولته، وما هو ضروري لاي مواطن يتمثل بالطاعة والمقاومة، كما هي عبارة آلان (Alain)، فالذي يحفظ نظام المجتمع هو الطاعة، اما ضرورة المقاومة فلصيانة الحرية. ان هذه الجمل ملزوزة، ولكن بما انها تذكر الحقوق فستتضايف مع الواجبات، ولست هنا بصدد الذهاب بعيدا في المعاني الواسعة والدقيقة، والملتبسة احيانا، وخاصة فيما يتعلق بالواجبات (الحق الطبيعي والحق الوضعي والواجبات الواسعة وواجبات العدالة.. ماهو الواجب الملزم وغير الملزم، المتعين الكمية وغير المتعين، الواسع والاختياري.. وهذه كلها جزء من فكر اصطلاحي متشابك من المهم تفصيله من طرف المتخصصين.. الذين يتحلون بفكر نقدي تنويري مع علاقة غير مشكوك في إصالتها بالارث الاصطلاحي والعُرفي.. القوانين والعادات..).
يطلب العراقيون حقوقهم، ويعدّون ذلك من واجبات الدولة، وفي بعض الاحيان لا يتذكرون واجباتهم ليعلنوها، فقد تعايشوا مع الواجبات الواجبات وتحملوها مطولا ولم ينسوها ليعودوا الى تذكرها، وقد زادت ndash; اذا لم تكن طاغية ndash; على الحقوق التي تضاءلت باستمرارالى ما يشبه النسيان، وكانت الواجبات متعددة لاكثر من عقدين، في الحكم الثاني للبعث،: ابتداءا من الواجبات القومية والوطنية ونتائج ذلك معروفة في اثناء الحصار: رموز التحمل: المرأة بشكل عام، الشبان الذين لم يتعرفوا على quot;أجمل سنوات العمرquot;، الأطفال الذي واجهوا جريمة افتقاد الحب والشفافية، الأسرة التي كانت الشروط السياسية والمادية تهددها بالإبادة الأخلاقية بعد تناقص رصيد التكافل الاجتماعي لتطاول أمد الحصار الداخلي والخارجي...
ان الواجبات ما زالت مفروضة على نحو واقعي، وقد تقلص بعضها ولكن أضيف بعض آخر، فالحرية تتوجب الحذر والانتقاص في الرقابة الذاتية المتطيرة، كما إن الأمن صار واجباً متشعبا على الفرد والاسرة، اما رموز التحمل.. فلا حاجة الى تكرار تعدادها من المراة.. والى...، ومع ذلك فقد سمحت الحرية في ان يطلب المواطنون بعض حقوقهم.. والضروري منها في مسرح يتصاغر فيه المسؤول امامهم.. (واقعة رايتها حية في التلفزيون الرسمي بعد سقوط ضحايا انفجارما وسط بغداد.. زار وزير الداخلية انذاك ndash; ربما في 2004 ndash; موقع الانفجار: كان المشهد طريا.. الناس تتراكض وتحمل بقايا الجثث وسط الانقاض.. وتحدث الوزير متهجما على الجمهور: لماذا لاتحفظون الامن؟ انتم المسؤولون عن.. وعن الخ.. كان الجمهور ضحايا ساوى المسؤول الامني الاول بينهم وبين الجناة، وفي حين ينجو هؤلاء.. تلقى الناس الحاضرون والمشاهدون الشتائم العصابية، ثم صار الوزير سفيرا في اهم دولة ليتحدث في أرقّ لهجة.. ليس مع مواطنيه حتما.. وعلى هذا النحو تتكامل المصائب).
ان المواطنية التي يقصد اليها العراقي هي مزيج من الهوية المستغرقة ومن مطلب العدالة، فالهوية يمكن تسميتها: الهوية الوطنية، اما العدالة فانها لاتعدو كونها رغبة في تخطي المحاصصة (وهي تعني اللا محاصصة، كما اشرنا الى معناها المحدد)التي تعيد التذكير بالطائفية،وقد تقلصت هذه من الطائفة التي وظفت حزبيا الى الانشقاقات الكتلوية،وتعيد التذكير ايضا في المكونات القومية ووضعها الدستوري (الاعتراف بالامر الواقع) مع كل الاشتباه الذي تحيط بهذا المبدأ الذي سيواجه تناقضاته بمرور الوقت والتجربة. ان (الديموقراطية؟) المفروضة بتفاصيلها،ستكون مرجوعا عنها لاقل من هذه العوامل الداخلية، واقل من مثل هذه العوامل سيهدد الديموقراطيات العريقة، لو واجهتها بنيويا (في مثال لافت من فرنسا، خلال حكم شيراك ndash;ميتران ndash; اليمين واليسار ndash; كان الرأي العام والمصلحة العليا هما ما حفظ النظام الديموقراطي في ظل ازدواج الحكومة فيما مارس المسؤولان ضبطا للاعصاب كان واضحا للمراقبين).
ان المزاحمة على الهوية، وتعدد الادعاءات في الاحقيات، مع تقليص مبدا الشرعية، سيجعل البلاد: أباديد،ومن غير شك فالكل يشكل الهوية، ولكنها هوية واحدة لا تحذف اجزاءها ولا تتقبل ان يكون الجزء بديلا عنها، واي استغراق في التفاصيل سيجعل الملامح الاساسية للوجه في حكم الضائعة.ان المجتمع هو من يحرس ذاكرته، من غير ان تفرض على تلك الذاكرة ارادة تجعل المجتمع يعيش ازمة سياسية، كالتي نعيشها في العراق، ازمة يدفع المجتمع ثمنها من فرصته في التغيير والنمو الداخلي والاختيار بين المشروعيات، فالتطلعات العليا والمطلقة (كأنْ نتحدث عن دولة لتنظيم العمل السياسي.. كما كان يجري في القرن التاسع عشر الاوربي) تحتاج الى متطلبات مطلقة ايضا (ادوات واليات وشروط بشرية وزمانية وطرائق مرنة تصاحبها مبادىء واضحة...) ولكننا اليوم وهنا نحتاج الى شيء واقعي يتمثل بالاهداف النسبية التي يمكن قياسها بالامتار، مع وسائل تقريبية (اقل من مطلقة) والا كان عملنا اشبه بمطاردة الاسطورة.. اسطورة بدايات التاريخ.. التي لن تختلف عن نهاياته. ففيما نحن منشغلون بقنص البداية اذا بالنهاية تضع لنا حدا بين براثنها (نعتقد طائشين اننا نطارد الاسطورة لكنها في الحقيقة تطاردنا وسط فخاخها).
ان الاحتلال، وخاصة بالنسبة للذين عاشوا طوال حكم البعث في العراق، عكسَ نوعا من الارتباك الاخلاقي، مع ان الكثيرين كانوا يرغبون في التغيير، وهذا الشعور يختلف درجة واتجاها من مجموعة الى مجموعة، وقد اختلطت تدابير الاحتلال بالفوضى، مما قدم دليلا على ان التغيير جرى بطريقة مغلوطة وباهداف مدخولة، وسيكون من المنطقي دفع اثمان اضافية لاعادة شيء من التوازن الى بعض المفاصل الاجتماعية والسياسية والادارية، وان ما يصرح به العراقيون من رغبة ndash; واحيانا ارادة ndash; في التاكد من كونهم مواطنين والبرهنة على ذلك.. هو المدخل المقبول للتحرر من الأعباء الجديدة التي أضيفت إلى استحقاقات الماضي القريب الذي ما زال حاضرا في الواقع.. سواء عبر اجراءات المغالبة الأيديولوجية غير الناضجة، أو عبر الذاكرة التي لم تمارس نومها بعد.. وهي ذاكرة يتقاسم موضوعها الجميع من غير استثناء.. وللأسف لا يحذرون ردود مضامينها المستفزة لدى الجميع أيضا، فالوقت لا يلعب دورا ايجابيا على طول الخط.. إذا لم يقلل البشر من سلبياتهم على الأقل، بله ان يعملوا وفق تثوير ما هو أفضل فيهم وان ينجذبوا إلى أفضل ما في الأخر.. إننا حقا بحاجة إلى المواطنية.. وفكرها..، ولسنا في مناسبة للسرد التأريخي، بل نحن مطالبون بالدخول الى التأريخ، تحقيقا لا تعليقا (من غير تأجيل) كما كان يقول بعض فقهاء المسلمين، وان تكون مبادراتنا التجريبية غير هامشية او ترقيعية كما هي حال الطائفية الانتقائية التي تعيش على السطح فيما تريد امتصاص نسغ المجتمع الذي كان على طول تاريخه مستقلا بوثباته النظرية ومشبعا بالاعراف والديانات وكان يستطيع بالتجارب ndash; وما اشد ما كانت عليه قسوة اكثرها ndash; ان يطرح شوائبه كل ما عاودت التطفل على سبيكته... ألم تقرأوا ndash; على سبيل المثال ndash; في كتب الادب الشرقي انّ ذلك الادب لم يتوافر له quot; السبك العراقي quot;.. اذهبوا بهذه الكلمة وجولوا بها حول تأريخ ثقافة هذا البلد فلن تجدوها اقلّ صدقا في الحقول الاخرى..، ولكنّ الانشغال بالسرد التاريخي، والانغلاق المتطرف عن الاخر، مع تدمير الذات بالتخارج المجاني، وعدم انقاذها بالمبادرة النقدية، ومحاولة انشاء اساطير ارادية لماقبل الصفر، وعدم السماح للتجربة السياسية ان تعيش يوميا وتلقائيا مع المجتمع لكي ينتج شكل الدولة.. لتاخذ هذه بالتالي مضمونها الحي.. لكن هذا كله.. مع تنغيل التجربة قسرا وكليا سيحيلنا الى القصور الذاتي رغم الزمن العاري الذي يطوف من حولنا دون ان ننجذب الى لحظاته الخلاقة، فنعمل على توحيد الفكر والعمل افقيا وعموديا ابداعا باكثر ما يمكن تجنبه من الدوغماتية،
ولا مشاحّة في حميّة الادب واطنابه اذا كان المواطن فقط هو لحمته وسداه.. فالادب موطني ايضا.