إبتداء.. لابد من الاقرار مسبقاً، إن القائمة (العراقية) هي الوحيدة من القوائم والكتل النيابية التي تملك الحق الشرعي والقانوني لتشكيل الحكومة المقبلة، وأن تفسيرات محاكم مدحت المحمود للمادة (76) من الدستور المعمول به موظفة لصالح نوري المالكي وقائمته الانتخابية التي فشلت في احراز المرتبة الاولى في الانتخابات، وهذه هي الصفقة الثانية التي يعقدها المحمود الذي عينه الحاكم الامريكي السابق بول بريمر في منصبه على رأس مجلس القضاء الاعلى مع رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، فقد سبق للمحمود ان ضرب بعرض الحائط قراراً اصدرته محكمة تمييزية عليا ببطلان اجراءات هيئة المساءلة والعدالة باجتثاث 571 مرشحاً للانتخابات لعدم دستورية الهيئة وافتقارها الى الاسانيد والأدلة القانونية، في صفقة فاحت رائحتها الكريهة.

واذا كانت للانتخابات الاخيرة من ايجابيات رغم قرارات الاجتثاث والاقصاء التي سبقتها، والملابسات التي رافقتها، وعمليات التزوير الحكومية التي سادتها، فانها إيجابية واحدة فقط، تمثلت في ان التيار العروبي في العراق أثبت سياسياً وميدانياً انه ليس طائفياً ولا عنصرياً، وانما تيار سياسي انساني وعصري، بدليل انه انتخب قائمة ضمت عرباً سنة وشيعة واكراداً وتركماناً ومسيحيين ويزيديين، ولم تنجر جماهيره المليونية الى المستنقع الطائفي او العرقي الذي استوطنته احزاب شيعية واخرى كردية، قدمت طائفيتها وعرقيتها كأولوية، دون أعتبار للمواطنة العراقية واستحقاقاتها السياسية والنيابية.

وعندما انتخب التيار العروبي القائمة العراقية وتمكن من دفع (91) نائباً الى البرلمان شكلوا اكبر كتلة نيابية، فان الرسالة التي اراد العروبيون ايصالها الى العالم اجمع، كانت ذات دلالات سياسية ومضامين اجتماعية تمثلت في ان عرب العراق مازالوا بخير وقادرون على الفعل والتأثير، رغم ما لاقوه من تنكيل وتقتيل وسجن واعتقال على امتداد سبع سنوات قاسية اعقبت الاحتلال الامريكي، قدموا خلالها اكثر من مليون ونصف مليون شهيد، وثلاثة ملايين مصاب ومعوق، ومليوني ارملة، وخمسة ملايين يتيم، وتدمير مئات الأحياء والمناطق وآلاف البيوت والمنازل وتهجير أربعة ملايين انسان عراقي الى المنافي والفيافي، ولم نسمع او نقرأ عن شعب آخر قديماً وحديثاً قدم مثل هذه التضحيات الجسام.

وقد كان واضحاً من البداية، ان التيار العروبي بحركاته واحزابه وجمهوره، وهو يخوض الانتخابات مشجعاً ومؤازراً وناخباً دون ان يرشح ايا من قياداته ورموزه وكوادره تفادياً لقرارات الاجتثاث سيئة الاسم والصيت، كان يسعى الى إشعار الاحزاب المستوردة من الخارج وتلك المدعومة من واشنطن وطهران وتل ابيب، ان العروبين هم أوسع تيار شعبي في العراق، لن تقدر دولة او حزب مهما كان حجمه او العون الذي يتلقاه من الخارج، ان يشطبه من الخارطة السياسية في العراق، لسبب بسيط جداً، هو ان جذور هذا التيار ضاربة في العمق العراقي، وليس طارئاً على البلد، وهو موجود وحاضر في كل بيت عراقي من الموصل شمالاً الى البصرة جنوباً ومن ديالى شرقاً الى الانبار غرباً، وبالتالي لايمكن لاحزاب وافدة من صنع امريكي او ايراني او اسرائيلي، ان تنجح وتتحكم في بلد عاموده تيار شعبي عريض بنى الدولة العراقية الحديثة وعزز استقلالها وسيادتها وحمى حدودها وهزم الطامعين فيها واجبرهم على تجرع السم، وصحيح ان الاحزاب الشيعية الطائفية ونظيرتها الكردية الانفصالية قد وظفت من قبل الامريكيين والايرانيين والاسرائليين لحكم العراق عقب الاحتلال، ولكن الصحيح ايضاً، ان هذه الاحزاب مجتمعة لم تقدر على مواجهة التيار العروبي خلال السنوات السبع الماضية الا بمساندة الالة العسكرية الامريكية التي وضعت تحت تصرف السلطات الحكومية المتعاقبة اكثر من مئة وعشرين الف جندي وخمسة الاف دبابة وعربة عسكرية والف طائرة هليكوبتر واربعمئة طائرة مقاتلة، وخمسة عشر قمراً في الفضاء العراقي للرصد والمتابعة، اضافة الى ثلاثين الف مرتزق ضمن شركات الحماية الاجنبية مثل بلاك ووتر وشقيقاتها.

ولولا حملات المداهمة والاعتقال واساليب القهر والارهاب وعمليات التزوير والانتهاكات التي مارستها احزاب السلطة الحالية في الانتخابات الاخيرة، لكان بامكان التيار العروبي في محافظات الجنوب والفرات الأوسط ان يعزز القائمة العراقية باربعين الى خمسين نائباً على اقل تقدير، وهو رقم كان متوقعاً، غير ان الاجهزة الايرانية نزلت بثقلها الامني والسياسي والمالي، ونجحت من خلال جواسيسها واتباعها وبينهم محافظون ورؤساء مجالس محافظات ومديرو شرطة وامن وقادة ميلشيات مسلحة وقائمقامون ومدراء نواحي من منع مليون ونصف مليون عراقي من الوصول الى مراكز ومحطات الاقتراع، ووصل الامر بمجالس عدد من المحافظات مثل النجف والبصرة والناصرية والديوانية والمثنى والعمارة الى اعلان قرارات تجريم وادانة قبل الانتخابات لكل من ينوي انتخاب القائمة العراقية واتهامهم سلفا بالمادة (4) ارهاب وتهديدهم بالسجن ومصادرة بيوتهم وممتلكاتهم وتهجير عوائلهم وعشائرهم الى خارج تلك المحافظات.

وقد صار واضحاً ان التيار العروبي هو الذي اوصل القائمة العراقية الى المرتبة الأولى وجعلها اكبر كتلة نيابية، وهذا يعني ان عليها استحقاق للتيار يجب ان تلتزم بمضامينه وفي مقدمتها ان تحافظ على الحد الادنى من مشروعها الوطني الذي بموجبه اقبل الناخبون على انتخاب مرشحيها، وإلا تنحدر الى هاوية المحاصصة الطائفية تحت عناوين ومسميات جديدة في سعيها الى تشكيل حكومة جديدة، وعليها ان تضع في حساباتها ان القوى والاطراف التي دعمتها وشجعت على انتخاب مرشحيها لها رأي وموقف في مفاوضاتها ومباحثاتها مع الكتل والقوائم الاخرى لابد من سماعهما والتعرف عليهما، وهما بالتأكيد يقفان معها ويعضدان تماسكها، ولكن وفق ضوابط وسياقات تحفظ للقائمة العراقية حضورها وتعزز مكانتها، ونعرف سلفاً أن المفاوضات مع الكتل والقوائم الاخرى شاقة وعسيرة نظراً لتخندقها الطائفي والعرقي، ونثق بقدرة وأداء السيد رافع العيساوي الذي يرأس وفد العراقية المفاوض مع الاخرين، ولكن ليس من حق (العراقية) ان تفرط بالجمهور الذي جاء بها الى الصدارة وتمتنع عن سماع رأيه ووجهات نظره في مجمل العملية التفاوضية والتحضيرات لتشكيل الحكومة المقبلة.

إن إصرار (العراقية) على خيار وحيد يتمثل في ترشيح اياد علاوي لرئاسة الحكومة المقبلة، خطأ سياسي لانه يحمل نتائج وانعكاسات خطيرة، فالذين ساعدوا وعملوا وساهموا في انتخاب علاوي انطلقوا ليس لانه من اصول شيعية، او شيعي علماني كما يقدمه زملاؤه الى وسائل الاعلام، وانما لانه قبلَ ان يكون جزءً من مشروع وطني يضم صالح المطلك وطارق الهاشمي واسامة النجيفي ورافع العيساوي والمئات من المنضوين تحت كتلهم في جبهة الحوار وتجديد وعراقيين والمستقبل، وكان يفترض بالعراقية ان تقدم مرشحين اثنين او ثلاثة وليس واحداً في مفاوضاتها مع الاطراف الاخرى مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي لكسر الاطار غير الدستوري الذي خصص موقع رئيس الوزراء لشيعي وتحويله الى (عرفٍ) يُعمل به لاحقاً، كما ان ترشيح العراقية لعدد من الاسماء لرئاسة الحكومة المقبلة، يعطي فرصة للاخرين في تفضيل هذا على ذاك، وربما يحرجهم وفقاً لحساباتهم وتوجهاتهم ورغباتهم، وايضاً لتوجساتهم ومخاوفهم.

وثمة خطأ آخر يروج له بعض اطراف (العراقية) مع الاسف هذه الايام، يتضمن الرغبة في التحالف مع قائمة دولة القانون لتشكيل الحكومة المقبلة بحيث يصبح اياد علاوي رئيساً للوزراء ونوري المالكي رئيساً للجمهورية واختيار نائب من التحالف الكردي رئيساً لمجلس النواب، ومنح الائتلاف العراقي استحقاقه الانتخابي من المقاعد والوزارات، في الوقت الذي يرى كثيرون من انصار العراقية ان هذه الصيغة تفتقر الى التوازن السياسي وتشكل محاباة للتحالف الكردي على حساب الائتلاف، وحجتهم انه ما دام بمقدور كتلتي العراقية ودولة القانون تشكيل الحكومة واختيار رئيسي الجمهورية والنواب باصوات مجموعها 180 صوتاً، وهي اكثر من النصف زائد واحد التي يحددها الدستور، فلماذا تعطى رئاسة البرلمان الى التحالف الكردي ولديه (40) مقعداً وليس الى الائتلاف مثلاً وهو يجمع (70) مقعداً؟ ويعتقدون ان حل معضلة تشكيل الحكومة المقبلة من قبل كتلتي العراقية ودولة القانون تستلزم اولاً، تخلي الكتلتين عن مرشحيهما الوحيدين اياد علاوي ونوري المالكي وعدم منحهما اياً من المواقع السيادية الثلاثة، بحيث ترشح العراقية شخصية غير علاوي ويفضل ان تكون من اصول ومناطق سنية (طارق الهاشمي أو رافع العيساوي)، لكسر المحاصصة الطائفية وتجاوز مرحلتها السابقة، بينما ترشح قائمة دولة القانون احد قيادييها غير المالكي، مثل جعفر الصدر او حيدر العبادي او حسن السنيد لرئاسة الجمهورية، بينما يتم اختيار شخصية كردية مستقلة سياسياً وغير حزبية مثل السيد اركان زيباري نائب الموصل، او الدكتور محمود عثمان ليكون رئيساً لمجلس النواب لاضفاء طابع الاعتدال على الموقع، ويمنح الائتلاف العراقي منصب نائب رئيس الوزراء او نائب رئيس البرلمان وعدد من الوزارات حسب استحقاقه الانتخابي والامر نفسه ينطبق على التحالف الكردي من ناحية استحقاقه الانتخابي.

ان القائمة العراقية اذا وافقت على تولي نوري المالكي رئاسة الجمهورية، فانها تكون قد قدمت مكافأة له، وخذلت الجمهور الواسع الذي انتخب مرشحيها، خصوصاً وان الاحداث والوقائع اكدت ومازالت ان المالكي شخصياً وسياسياً كان وراء استهداف هذا الجمهور، وهو نفسه لا غيره الذي انتهج سياسات الاقصاء والتهميش والاجتثاث ضد كل من لا يتفق معه ويرفض الخنوع لاجندته.

القائمة العراقية امام اختبارعليها ان تخوضه باقتدار حتى النهاية، فليس الحصول على مركز رئيس الوزراء هو نهاية المطاف، وليس ان يكون علاوي رئيساً للحكومة هو الهدف الاسمى، ومطلوب من جمهور (العراقية) ومن ساندها ووقف معها وانتخبها ان يقول كلمته الآن الآن، ولا خير في مشروع سياسي جمهوريته رئيسها نوري المالكي وبرلمانه يرأسه كردي حزبي انفصالي.

كاتب وسياسي عراقي