يشهد التيار الديني السلفي في السعودية منذ سنوات حالة من الهجوم الناقد الذي يقوم به تياران: الأول: التيار الليبرالي، ومن انضووا في فضاءاته من تيارات الحداثة وما بعدها من أجيال الكتاب والأدباء الشباب، والتيار الثاني هو ما يمكن تسميته بتيار: quot; المرتدين عن الصحوةquot; هذا الهجوم الناقد الذي تجلى على الأغلب في مواقع الإنترنت، وفي صفحات الرأي بالصحف السعودية خاصة صحف: الوطن، والرياض، وعكاظ، كما تجلى في الكتابات الليبرالية التي تستند على رؤى مستقلة لكتابها ومنهم: تركي الحمد، حمزة المزيني، وبدرجة أو بأخرى عبدالله الغذامي، وسعد البازعي، وعلي الموسى.
لقد شكلت أحداث 11 سبتمبر 2001 نقطة فاصلة في هذا الهجوم، جاء الحدث كالعاصفة التي فتحت باب النقد، نقد المناهج التعليمية، نقد الفتاوى، نقد طرق التعليم الديني، نقد الصحوة.. وبدا أن السعوديين يدخلون مرحلة جديدة تسعى للتخلص من تركة التشدد السلفي، فكرا، وحياة، ونموا، وتطويرا. حيث أعاق هذا التشدد لفترات طويلة مسألة أن تصبح السعودية مركزا استثماريا وسياحيا عالميا، وأعاق فكرة وجود مدن تجارية حرة على غرار دبي مثلا، وسبقت الشقيقات الأصغر في منطقة الخليج العربي السعودية في التوجه الاستثماري والتجاري الحر كما في الإمارات، والكويت، والبحرين، وقطر.
لقد شهدت السعودية مرحلة من التشدد واكبت المرحلة التي تسميها الأدبيات السعودية بمرحلةquot; الطفرةquot; كان التشدد عاما يشمل مظاهر متعددة من الحياة، تمثلت أولا في الفصل بين الجنسين وعدم الاختلاط، وفي احتكار تعليم البنات وفقا لشروط الرئاسة العامة لتعليم البنات التي كان يهيمن عليها متشددون راديكاليون، ويبدأ هذا الفصل من مرحلة الروضة حتى المرحلة الجامعية، كما تمثل في الفصل بين العائلات وبين الشباب الأعزب، في المطاعم، والأسواق، والفنادق، والحدائق، وعدم وجود مواصلات عامة، سوى المواصلات الخاصة بالعمال الأجانب عربا أو غير عرب، حتى إن مصاعد الأسواق لم تسلم من هذا التشدد فهي مصاعد زجاجية كي تكشف هوية ركاب هذه المصاعد.
وتمثل التشدد أيضا في طرق البناء والمعمار، فكل بيت أو فيلا لها بوابتان: الأولى: للحريم والثانية للرجال، كما تمثل في وضع أسوار عالية جدا لمدارس البنات، وللبيوت، والمنازل، وفي صنع نوافذ حديدية للعمارات، وعدم وجود بلكونات، كما في مباني الرياض ما بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين، حيث تغيرت الطرز المعمارية إلى البناء المنفصل ذي الطابق الواحد أو الطابقين بدلا من العمارات والبنايات الشاهقة، فتمددت المباني أفقيا، بشكل يجعل من يسير في شوارع الرياض نهارا يشعر وكأنه يسير في الصحراء فلا أصوات، ولا جلبة، ولا أناس عابرون.
وقد طال التشدد كل شيء، بدءا من المناهج الدراسية حيث يدرس الأطفال منذ بواكير مراحلهم التعليمية فصولا عن الفقه والتوحيد والحديث، وكلها أشياء طيبة لو راعت العمر الزمني للأطفال، لكنها تقدم هذه المواد وكأن الأطفال علماء وفقهاء، كما طال تصرفات الناس الاجتماعية، في المأكل والمشرب، والملبس، والسلوك، مما أنتج مجتمعا سريا آخر موازيا، كما طال الكتابة والتأليف والإبداع، ومنع إنشاء دور للمسرح والسينما، وفرض الرقابة على الإنترنت، والبرامج التليفزيونية والإذاعية.

وحرم التشدد المرأة من كشف وجهها كبقية وجوه العالمين على كوكب الأرض، كما حرمها من التواصل المباشر مع الجنس الآخر سواء كان هذا الجنس الآخر طفلا، أم شابا، أم رجلا كهلا، أم مسنا، كما حرمها من بعض الوظائف والمناصب العليا، وحرمها من بعض حقوق الإقامة في الفنادق أو السفر، أو قيادة السيارة، مما أحدث ارتباكا في نمط الحياة العصرية التي كان من الممكن أن يعيشها الشعب السعودي في هذا الزمان.
وقد تمثل هذا الارتباك في نمط الحياة في وجود مشاكل اجتماعية كبيرة تتمثل في فقدان الثقة الاجتماعية بين الطرفين: الرجل والمرأة، وفي الخوف الشديد من الاختلاط حتى في الأماكن العلمية، ووجود حواجز نفسية كبيرة بين الإنسان السعودي ( رجلا أم امرأة)، كما تجلى هذا الارتباك في اعتماد الأسر السعودية بشكل كبير على العمالة الآسيوية في: التربية، وخدمة المنازل، وتم جلب الخادمات والسائقين بأعداد هائلة، كما تبدى في الإعلاء من شأن القبيلة، والنسب، والتوجه الاجتماعي.
السعوديون عاشوا مرحلة غير طبيعية، في مرحلة الصحوة في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته وبالتالي نتجت أيضا أجيال غير طبيعية لأنها لم تمارس حياتها إلا في إطار من العزلة والنفي والإقصاء أو التسلط الديني المتشدد، ومن هنا فإن هذه الأجيال عندما تصطدم بالحياة الطبيعية في الخارج لا تستطيع أن تمارس حياتها بتلقائية إلا بعد مدة من الزمن.
لقد كان المتشددون يشكلون فريقا للوصاية والرقابة، وحذروا الشعب السعودى بمقالت وفتاوى من خطر quot; الدشquot; والفضائيات، كما حذروه من خطر الموبايل والجوال، والجول ذي الكاميرا، وحذروه من دمج التعليم، وحذروه من سفر المرأة وحدها، وحذروه من كتابة الشعر والرواية ومن المسرح والسينما، ومن المذاهب الفكرية الهدامة، وحذروه من التعامل والحوار مع الآخر، وحذروه من التعامل مع البنوك الربوية، ومن شبكة الإنترنت، ومن مواقع الفيس بوك والتويتر والياهو وجوجل، وها هم السعوديون اليوم لا يخلو أي بيت من أطباق القنوات الفضائية، ومن التفاعل مع شبكة الإنترنت، ولم تمتعهم الفتاوى السلفية من اقتناء أحدث الجوالات، ومن تأسيس مواقع الإنترنت، ومن إنشاء قنوات فضائية، ومن السفر إلى معظم بلدان العالم، ومن الحوار مع الثقافات الأخرى، ومن الكتابة الإبداعية.
كذلك فإن الظاهرة المثلى في الحياة السعودية اليوم، تتمثل في توجه الأجيال الجديدة صوب التثقيف الذاتي، ووجود عدد كبير من الخريجين الجامعيين الذين يتجهون إلى صناعة مجتمع المعرفة، والتحلي بالثقافة العصرية التي تفارق عصر التشدد، كما أن درجة التساؤل لدى الأجيال الجديدة أصبحت عالية، وخلت من التسليم والطواعية بكل ما يأتي به التيار السلفي المتشدد الذي يتوارى عن المشهد يوما بعد يوم.
كما تشهد السعودية نموا كبيرا في مجال التعليم الجامعي وإنشاء جامعات جديدة في مختلف مناطقها، وهذا بدوره سوف يصب في صالح مستقبل الشعب السعودي.
فضلا عن زيادة عدد المبتعثين إلى الخارج بأكثر من 90 ألف مبتعث للدول الأجنبية، وزيادة الاستناد على جيل الشباب في مجالات الإعلام والثقافة والاستثمار الاقتصادي.
هذا الجيل الجديد يجيد تماما التعامل مع تقنيات الاتصال الحديثة، ويسعى إلى طرق أبواب عالم التقنية، ومفارقة عالم الحواديت والتراث إلى عالم أكثر قربا من حياة الإنسان المعاصر.
إن الإنسان السعودي لم يعد بحاجة إلى إعادة زمن الوصاية والتشدد، وهو يسعى للانطلاق في أكبر دولة في الشرق الأوسط في مجال الاقتصاد، السعوديون اليوم يقرأون مستقبلهم بشكل أكثر تحضرا وعصرانية، السعوديون اليوم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.