لا خيار للشعب المصري غير المجلس العسكري في ظل هذه الحراك الشعبي المتلاطم الامواج، حيث تعود مرَّة أخرى ظاهرة التجمعات المليونية في ميدان التحرير لا لتهتف بسقوط حسني مبارك بل لتهاجم المجلس العسكري بالذات، وتوجِّه له أكثر من إتهام، منها إن المجلس بمشيره الطنطاوي لم يشهد الحق في محاكمة مبارك،وانه متواطيء مع النظام القديم، ولم يتجاوب مع أهداف (الثورة)، ويعد لديكتاورية جديدة، وإنَّه يعمل على إفراغ (الثورة) من مضمونها الحقيقي تحت ستار نظام انتخابي مشوه، وغير ذلك من الاتهامات التي تكشف عن علاقة غير واثقة بين المجلس العسكري وقادة هذه الحراك!
السؤال المطروح حقا، وبإلحاح، تُرى أي جهة مصرية يمكنها أن تملأ الفراغ الحاصل في مصر بعد إسقاط نظام مبارك غير المجلس العسكري؟
الاحزاب المصرية التقليدية منها والمستحدثة، أم التيارات الدينية الجماهيرية مثل الصوفية والسلفية وما لهما من نظائر، أم الجماهير بلغتها العامة وحراكها العنفواني العنيف؟ أم رموز الشعب المصري الروحي من مسلمين ومسيحيين؟
مصر على مفترق طرق، وبقدر ما يتحمَّل المجلس العسكري مسؤوليته القومية والوطنية والشعبية تجاه مستقبل البلاد وسلامها ووحدتها، كذلك قادة ورموز الحراك الشعبي مسؤولون أمام الله والشعب والوطن تجاه تقدير الظروف التي تمر بها مصر، وما يمكن أن يحصل لها فيما فقدت القيادة المركزية الموحَّدة القادرة على ضبط الامور على أقل تقدير .
مصر قلب العروبة، وكعبة الاسلام، ونبض الشرق الاوسط، وضياعها بأي شكل من الأشكال ينعكس بالفوضى العارمة على كل المنطقة، وهذه هي الحال ينبغي على كلا الطرفين، المجلس العسكري وقادة الحراك أن يضبطا إيقاع إدائهما ومطالبهما على هذه الاوتار الدقيقة للغاية .
إنَّ نظرة بسيطة على الساحة المصرية من جهة الحراك الشعبي العارم تؤكد أنّ قادة هذا الحراك لا يشكلون بديلا ناجحا لقيادة البلاد، لانقسام هذه الرموز فيما بينها أزاء الكثير من القضايا، بما فيها الموقف من شرعية المجلس العسكري، وللعلاقات المتشنجة تاريخيا بين الكتل الشعبية التي تمثلها هذه القيادات، فصراع الاخوان مع اليسار في مصر معروف ووريث أحن وأحقاد، ولربما هناك بعض من القيادات تتحرك بدوافع شخصية، ولأن الفوضى لا تخلق نظاما ...
ليس كل خيار محبوباً بطبيعة الحال، ولكن قد تفرضه الظروف الصعبة العسيرة، وفيما كان هناك أكثر من اعتراض على المجلس العسكري تسجله بعض هذه القيادات، فإن الحقائق على الارض لا تجيز غيره بديلا لمليء الفراغ المخيف في البلد، فالمجلس العسكري جزء من مؤسسة هي الجيش المصري، والجيش المصري مهني، محترف، يجمع بشكل تقليدي بين الانتماء الوطني والديني والقومي، يمتلك تجربة عريقة بإدارة شؤون البلاد، له علاقات وطيدة بدول العالم، فليس من المعقول الاستغناء عنه، أو تنحيته، واستبداله بغيره من البدائل المتصوَّرة، حيث تثبت الوقائع عدم صلاحيتها، على اقل تقدير من جهة وحدتها وخبرتها وعلاقتها بالعالم .
ولكن هل يعني هذا أن يكف الحراك الشعبي عن نشاطه الفاعل، وحضوره المتميز؟
لا بطبيعة الحال ...
إن النشاط ليس له صورة أزلية أو شكل حتمي، أقصد على شكل مظاهرات مليونية صاخبة تعطل الحياة، وتبدد المال العام، وتربك البلد، وتحدث المزيد من الانشقاقات الخلافات داخل المجتمع، بل هناك النشاط الاعلامي والسياسي والتثقيفي الهاديء الذي من شانه ان يشكل أداة ضغط على المجلس العسكري للاستجابة لاهداف الحراك بالذات، بعد أن تتضح خطوط هذه الاهداف بحروفها العريضة .
المجلس العسكري ليس من السذاجة التي معها يتجاهل أهداف هذا الحراك القوي النشط، وليس من السذاجة أن يفكر بالتحايل على هذه الاهداف، لانها مدعومة بتيار شعبي بل بموج شعبي عارم، ولأنها جزء من تحرك عربي شرق أوسطي يطالب بالحرية والديمقراطية ومبدا تبادل السلطة، وبالتالي، على قادة الحراك الشعبي المصري أن يعوا هذه الحقائق، ويستفيدون منها في سياق تعامل موضوعي مع المجلس العسكري، لا أنْ يطالبوه بما لا يتحمله واقع المجلس، ولا واقع مصر ولا واقع الحراك بالذات .
ماذا لو انفلتت الامور في مصر؟
شعب مليوني ... مساحة جغرافية مترامية الاطراف ... تيارات شعبية مليونية ... علاقات اجتماعية متوترة!
هل تعي قيادات الحراك الشعبي كل هذه الحقائق المرَّة؟
من لمصر غير المجلس العسكري؟
سؤال في غاية البساطة يفرض نفسه في سياق معطيات واضحة كل الوضوح، والجواب هو الآخر واضح...
ليس لمصر في هذه الظروف غير المجلس العسكري ....
ولكن على المجلس العسكري أن يخطو خطوات شجاعة باتجاه التغيير، باتجاه المطالب الشعبية المشروعة، وفي مقدمتها المطلب الديمقراطي، وسوف يدخل التاريخ لو تحول إلى مجلس لحماية ديمقراطية مصرية وليس مجلسا لحكم مصر ....
وحفظ الله مصر.