من المؤكد أن الحرب العالمية الأولى والثانية خلفت جروحا غائرة في ذاكرة الإنسان الأوروبي. ولم يكن من السهل عليه تجاوز ويلاتها، واسترجاع توازنه النفسي والروحي حتى وإن غلف حياته الخارجية بمظاهر توحي quot;بالمرحquot; لكن يبقى مرحا مزيفاquot;،حتى وإن استغرق خلال عطلة نهاية الأسبوع في دهاليز المراقص والخمارات يلهو ويعب الشراب لحد الثمالة والإغماء. والنصوص الفلسفية والأدبية ذات المنحى الوجودي التي عمت الأرجاء مع نهاية الحرب العالمية الثانية في فرنسا وغيرها، مع بول سارتر والبيركامو تفصح بالكثير من الدلالات على هذا المنحى الوجودي المتشظي..

الطبيعة التدميرية لهاتين الحربين العالميتين خلفت أوربا قاعا صفصفا يحتاج لسنوات طويلة قصد البناء وإذكاء روح الحياة من جديد في أوصالها المبتورة..فالدمار أصبح صورة ناطقة صارخة على مستويات عدة : تحطمت البنى التحية لدرجة رهيبة بسبب قوة الآلة الحربية،التي عكست حجم الغل الساكن في أنفس الأوربيين تجاه بعضهم البعض. من يرى أوروبا في أعقاب نهاية الحرب الثانية وقد غدت خرابا يعتقد أنها عادت للتو إلى مغاول عصورها المظلمة الوسطى. إذ لم يقتصر الدمار على عمارة الحجر، بل طال البشر والشجر،والريف والحضر..

ولم يكن من السهل إعادة بناء القارة العجوز في ظرف كهذا بالاعتماد على القدرات الذاتية ومن غير quot;استنجاد quot;بquot;آخرquot;أكثر قدرة على تحمل الأعباء ويِؤمن لها المصاريف اللازمة والكثيرة التي تحتاجها عمليات البناء وإعادة الإعمار وبث روح الحياة في الاقتصاد الرأسمالي المنهار..

الشريك/ الآخر الاستراتيجي سيكون حتما ذلك القوي الصاعد الطامح في انتزاع الريادة من القارة العجوز.إنه الولايات المتحد الأمريكية بلا منازع. فالخطة رسمت هناك في واشنطن بإتقان. وبإحكام أيضا وضعت على طاولة التنفيذ. وما على حكام أوروبا الجدد،الذين تحالفوا مع روزفلت،لا لشيء سوى أنهم خشعت أبصارهم وارتعبت عقولهم لما رأوه من تصميم خطير أكيد للبروليتاريا الساخطة،التي لم تستسلم ولم تقبل هكذا نتيجة لحرب على الطريقة الأمريكية وحلفائها على ما يبدو. هذه البروليتارية الناقمة عزمت إذن على الاقتصاص من quot;االبرجوازية الانتهازيةquot;وجشعها. لذلك كان قبول هذه الأخيرة لشروط خطة الجنرال الأمريكي جورج مارشال القاسية،أمرا في غاية الإحراج للإنسان الأوروبي quot; العادي البسيطquot;، في حين منحت البرجوازية فرصة استرجاع مكانتها ضمن النادي الرأسمالي الغربي،لكن تحت إمرة الأمريكي هذه المرة وإلى حد كتابة هذه السطور على الأقل.

فما الذي شكلته خطة مارشال في حقيقة أمرها؟ هل كانت laquo;هدية لوجه اللهquot;من ألولايات المتحدة الأمريكية لأوروبا الغربية، قصد تجاوز عثراتها المتعددة؟ ما مدى تشابه أوضاع أوروبا المنهارة عقب الحرب العالمية الثانية وبين ما يحدث الآن في بلدان الربيع العربي؟ وهل ثمة quot;خطة مارشال quot;أخرى تعد في الخفاء استعدادا للحظة استقرار الأوضاع وجني الثمرات؟

لا يختلف اثنان في هذا الزمان أن الطبقة الرأسمالية الحاكمة في الولايات المتحدة لم تكن لتعمل شيئا لوجه الله، إن في نطاق سيادة حكمها وفوق أرض دولتها الممتدة ما بين المحيطين،أو هناك،في العالم الفسيح شمالا وشرقا،وعربا وعجما. فثمة حقيقة مرتبطة بعقلية الإنسان الغربي الرأسمالي عموما والأمريكي تحديدا هي quot;حيثما المصلحة قائمة فوجوده محتملquot;. فكل الأمور خاضعة للحساب و كل المعاملات الاقتصادية تتم وفق النظرة المرابية. لذا ليس من المستبعد أن تستغل الطبقة الرأسمالية وضع أوروبا المنهار في هذه الفترة العسيرة من تاريخها لتتقدم بمشروعها الذي سيجعل من الولايات المتحدة متزعمة للعالم وفق منظورها الاحتكاري الجشع، حتى وإن مرغت أنف أوروبا /الأم والأصل في المنشأ والتكوين، ومن رحمها خرجت إلى الوجود وعلى أيدي المغامرين الأوروبيين الأولين صنعت بذور الحلم الأمريكي الأول.

و الحقيقة أن انتهاز الرأسمالي الجشع quot;للفرصةquot; حيثما كانت وكيفما كانت، هو quot;خلقquot; قار في فلسفة الإنسان الرأسمالي، التي تقوم على استغلال الطبقة العاملة واحتكار قوة عضلها مقابل أجر زهيد.

ومن المؤسف بعد هذه التضحيات الجسام و النضالات الطويلة بعد هذه الحروب وويلاتها أن ترتكس أوروبا لقرارات البرجوازية من خلال سقوطها في براثين خطة مارشال الجهنمية. فما هو مؤكد الآن أن الحساب كان سيغدو عسيرا على البرجوازية. إذ على الرغم من إعلان الحلفاء عن نهاية الحرب في عام 1945وانتصارهم على دول الحلف الثلاثي الخطير آنذاك، إلا أن الطبقة العاملة الغاضبة واصلت نضالاتها، هذه المرة ليس ضد النازيين والفاشيين الطغاة، بل ضد البرجوازية الانتهازية وجشعها. لذا كان المخرج بالنسبة لهذه الأخيرة هو أن ترمي بمصلحة أوروبا واستقلالها لغريم يتربص في الأفق، الا وهو الولايات المتحدة، حتى وإن كان الثمن إيقاف المد التحرري المتصاعد والمتنامي في أيديولوجيا الطبقة العاملة. فالهدف واضح من التدخل الأمريكي هو الحيلولة دون خروج أوروبا من شبكة العلاقات الرأسمالية. وكان هذا هو المكسب الرئيس من المناورة المارشالية. أما المكسب الثاني والأهم أيضا هو انتزاع مركز القوة الاقتصادية وبشكل نهائي وإلى الوقت الحاضر على الأقل، من عملات أوروبا المتعددة لصالح الدولار وذلك من خلال ترسيمه كعملة للتداول الدولي وكمرجع وحيد لتقعيد كل التعاملات المالية والاقتصادية في جميع أسواق وبورصات العالم.

وأما فيما يتعلق بالسؤال الآنف الذكر: ما مدى تشابه أوضاع أوروبا في ظل خطة مارشال وبين ما يحدث الآن في بلدان الربيع العربي؟ وهل ثمة quot;خطة مارشال quot;أخرى تعد في الخفاء استعدادا للحظة استقرار الأوضاع وجني الثمرات؟ فمن المؤكد أن الغرب، المنهار اقتصاده والمستنزف لكثير من مدخراته، والمحتاج للنفط والغاز العربيين بلا شرط ولا قيد..كل هذه العوامل،وفي ظل إعلان العديد من مؤسساته المالية والعقارية إفلاسها الرسمي خاصة خلال العامين الأخيرين، فإن العالم العربي بما يوفره من استقرار في بورصاته المالية، وتزايد الطلب على بتروله الذي يظل ركيزة أساسية لقيام الصناعات المختلفة في الغرب، وتحول العديد من بلدانه في ظل التحول الربيعي إلى دول تنشد الديمقراطية وحقوق الفرد والدولة المدنية الحديثة، لهذه العوامل إذن يشكل وجهة مستهدفة للحكومات الغربية قصد إعادة بناء اقتصادها المنهار.

لذا ليس من المستغرب أن يصر الاتحاد الأوروبي على ركوب موجة الاستثمارات وحجز مكانه في الأسواق الربيعية الجديدة،حتى وإن أفلست العديد من بلدانه إقتصاديا. والمبادرة التي أعلن عنها وهي قيد الدرس هي إنشاء مصرف أروبي شبيه بمصرف إعادة الإعمار والإنماء الذي خصص لبلدان أوروبا الشرقية بعد انفصالها من الاتحاد السوفياتي..

هذه إحدى النوايا المعلن عنها..لكن ما ليس يجهر به خلال اللقاءات الرسمية والتصريحات على الهواء أمام شاشات الفضائيات هو هاجس وقف زحف quot;البؤس quot;وquot;الإرهابquot; إلى قلب القارة العجوز.فمن جهة أوروبا تؤرقها موجات تدفق المهاجرين الأفارقة الذين ينظرون إليها باعتبارها الجنة الموعودة،حيث إمكانية تحقيق الأحلام الضائعة في بلدانهم الأصلية من جراء الحروب والكروب والأوبئة المزمنة. ومن جهة أخرى تنظر بعين الريبة إلى ما يحصل في بلدان الربيع العربي. إذ التوجه العام في الحراك الشعبي الشارع العربي أشر وبشكل قوي، وفي غفلة من المؤسسات الأمنية الغربية علىquot;أسلمة quot;هذه الثورة والقطع النهائي مع العهد البائد الذي سوق لما يزيد من نصف قرن فكرة تعاظم الخطر الإسلامي على الغرب..

ومع كل هذه التطورات وتناقضاتها مع المصلحة الغربية، فإن الربيع العربي يشكل للغرب فرصة قوية للاستفادة.ولعل في توصيف هيلاري كلنتون لحجم ما ينتظر من الانجازات المزمع تحقيقها، كفرص للاستثمار في هذه البلدان حين زيارتها لمصر إذ قالت:إن الاستثمار في مصر أشبه بمن يعب مباشرة من خرطوم فيل..وفي الوصف دلالة وأيها دلالة..

وكيفما كان الحال، وحتى لو تدخل الناتو بآلياته العسكرية قصد إسقاط نظام القدافي أو الأسد أو صالح أو أي زعيم عربي مستبد، في محاولة منه تلميع الصورة الباهتة، فإن الشارع العربي لن ينسى أبدا إزدواجيته تجاه القضايا المصيرية للأمة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ورغبة الشعوب العربية في الحرية والاستقلال الحقيقيين من التبعية للغرب.