quot;الاستبداد يقلب الحقائق فى الأذهان...، فيسوقُ الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، و تارك حقه مُطيع، والمُشتكِي المُتظلّم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، و يُصبح - كذلك - النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، الشهامة عتوّا، والحميّة حماقة، و الرحمة مرضاً، كما يعتبر أن النفاق سياسة و التحيل كياسة و الدناءة لُطْف والنذالة دماثةquot; (عبد الرحمن الكواكبي في كتاب quot;طبائع الاستبدادquot;)

لم أجد أفضل من كلمات quot;الكواكبيquot; للرد علي ما جاء في quot;التقرير المشئومquot; للجنة تقصى الحقائق التى شكلها المجلس القومى لحقوق الإنسان في مصر عن quot;مذبحة ماسبيروquot;، الصادر في 2 نوفمبر الجاري، والذي برأ المذنب وأدان المجهول وضلل العدالة ... تماما كما جاء في quot;طبائع الاستبدادquot;.
لم أفاجأ أبدا بنتيجة التقرير لأن من عاش في مناخ الاستبداد طويلا، لن تنتظر منه (في ليلة وضحاها) أن يصبح quot;حراquot;.. quot;عادلاquot;.. quot;موضوعياquot;.. quot;جريئا في الحقquot;.. علي استعداد لأن يدفع حياته ثمنا لمواقفه. لكنني انتظرت فقط لأعرف quot; : شروط العلاقة الجديدة بين الدولة المصرية (ما بعد مبارك) والأقباط: ما الذي اتفق عليه quot;المشيرquot; مع quot;الباباquot;، قبل بدء عمل لجنة تقصي الحقائق، وكان هذا التقرير محصلته النهائية!

أولا: ان quot;مذبحة ماسبيروquot; في 9 أكتوبر الماضي التي قتل وأصيب فيها أكثر من 350 قبطيا خرجوا في مظاهرة سلمية، هو نقطة فاصلة في مسار ثورة 25 يناير 2011، وفي علاقة الدولة مع الأقباط الذين أصبحوا أقل استعدادا لطاعة قيادتهم الدينية، ورفضوا اعتبارهم طائفة دينية مسئول عنها سياسيا البابا، أو مجرد رعايا بمفهوم quot;الدولة الدينيةquot;. وأهم نتيجة لهذا التقرير المشئوم هي: أن الأقباط سيتم ادخالهم من جديد إلي حظيرة الكنيسة واختزالهم في شخص البابا، حيث السيطرة علي البابا تعني السيطرة علي كل الأقباط في العالم، وهو المنهج المتبع منذ يوليو 1952.

ثانيا: أن حركة شباب ماسبيرو التي تكونت من الشباب القبطي الذي شارك في ثورة 25 يناير وأختلطت دمائه بدماء أخوته المسلمين علي أرض ميدان التحرير، ولدت متمردة quot;سياسياquot; علي الكنيسة، بمعني أنهم يخضعون للبابا روحيا ودينيا فقط أما العمل السياسي فهو بالتأكيد موضع خلاف، وهنا بالتحديد يكمن قلق المجلس العسكري الحاكم وتيار الإسلام السياسي المهيمن علي المشهد العام، حيث مثلت quot;مذبحة ماسبيروquot; ضربة استباقية لهذه الحركة المدنية النضالية ndash; السياسية التي ألتف حولها الأقباط والليبراليين واليساريين وحظيت بأحترام الجميع.

ثالثا: أن سحب البساط من تحت أرجل الأقباط المدنيين، هو حيلة متبعة منذ السبعينيات من القرن العشرين حيث انسحبت الدولة من ممارسة دورها كمظلة للمواطنة الفعلية القائمة علي المساواة بين المواطنين جميعا، وهو ما دفع الأقباط إلي الاحتماء بالكنيسة من ظلم الاضطهاد وبمرور الوقت تحولوا الي طائفة أو ملة داخل الوطن لها كبير تتعامل معه الدولة، ثم سحبت الدولة رويدا رويدا هذا البساط من تحت أرجل هذا الكبير بإحراجه دائما والضغط عليه واهانته في وسائل الاعلام (الرسمية) و(الدينية)، واليوم تعود الدولة (ريما لعادتها القديمة) لتمارس لعبتها مع رأس الكنيسة مجددا.

رابعا: أن التنازل عن quot;دماء المصريينquot; سواء كانوا أقباطا أو مسلمين او لا دينيين، ليس في quot;مصلحة الوطنquot; إطلاقا، التي تقتضي معاقبة المجرميين الذين يهدمون أساس هذا الوطن وتقديمهم للعدالة، لا ان نظلم فصيلا من أبناء هذا الوطن وندهس العدالة تحت صياغات مطاطة وتقارير مضروبة بحجة quot; مصلحة الوطن quot;. فهؤلاء المتظاهرون الأقباط لم يذهبوا إلي ماسبيرو من أجل حفنة من الطوب والزلط والرمل، وبضعة أمتار من البناء هنا أو هناك أيا كان أسمه أو رسمه، وإنما رغبة في تأكيد المواطنة الحقيقية والمساواة وإعلاء كلمة القانون.

خامسا: أن النغمة المشروخة التي ترددت في وسائل الإعلام، ومهدت لهذا التقرير المشئوم، هي: أن البابا شنودة يرجح المصلحة الوطنية للبلاد حتي لو جاءت علي حساب مطالب الأقباط ومشاكلهم، هو قول مرفوض شكلا وموضوعا ndash; حتي ولو كان صحيحا - لأنه ينتقص من (وطنية) أخوتنا المسلمين واللادينيين التي لا تقل عن وطنية الأقباط، فضلا عن أنه نوع من المزايدة الرخيصة والنفاق الفج والتمييز المفتعل بين أبناء الوطن الواحد، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي quot;رأب صدع المواطنةquot; وتطبيق القانون، لا تبرئة الجناة المجرمين (وألقاء المسئولية علي quot;مدنيين مجهولينquot;) وتطييب الضحايا بمعسول الكلام.

سادسا: ان تظاهر الأقباط كان قمة النضال السلمي quot;المدنيquot; وليس quot;الكنسيquot;، حتي يلجأ المشير للبابا حتي يوقف هذا النضال، الذي ينطلق منquot;أرضية حقوقيةquot; قانونية لا دينية أو طائفية، فالمعيار الأهم في العالم اليوم هو quot;الكرامة الإنسانيةquot;، كما جاء في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، لم تعد quot;الكرامةquot; مفهوما أخلاقيا وحسب وإنما أصبحت مفهوما قانونياّ أيضا، فهي: المبدأ الأساسي الذي يشمل المساواة بين الأفراد جميعا، ويمنع في الوقت نفسه - جميع أشكال التمييز بينهم، التي تمس كرامتهم.
أن quot;الكرامةquot; تعني يا أعضاء لجنة تقصي الحقائق ويا سيادة المشير ويا قداسة البابا: أن الإنسان quot; مقدس quot; يفوق كل ثمن، لأن كل ما له ثمن يمكن تغييره بشيء آخر معادل له في القيمة، في حين أن ما يفوق أي ثمن.. له قيمة مطلقة، وهو ما يتناقض وquot;طبائع الاستبدادquot; التي لن تترك المستبدين إلا بعد (خروج الروح)!

[email protected]