هي لحظة فارقة فى تاريخ مصر المحروسة، لأنه منذ دستور عام 1923 الذ أعقب ثورة 1919 - أول ثورة فى تاريخ مصر الحديث - يتم إجراء انتخابات حقيقية يستعيد الشعب المصري فيها سلطته ويمتلك إرادته وعزيمته مرة أخري، بعد أن تم استبعاده تماما من المعادلة السياسية، وزيفت إرادته الحرة بنسبة 99.9% مرارا وتكرارا.
ومثلما أطاحت ثورة 25 يناير 2011 بأعتي النظم الاستبدادية في المنطقة، يحاول المصريون من خلال هذه الانتخابات البرهنة علي قدرتهم في إيجاد بديل ديمقراطي للنظام الدكتاتوري السابق، عبر استعادة الفكرة المحورية للثورة وهي quot; التوحيد quot; بالمعني الاجتماعي وليس الديني، توحيد كل قطاعات وطبقات وفئات الشعب المصري، من الريف والحضر، الرجال والنساء، أغنياء وفقراء، مسلمين ومسيحيين وبهائيين ولا دينيين، في ممارسة لعبة الديمقراطية وصندوق الانتخابات.
فكرة التوحيد هذه، التي تتوالي الضربات الغاشمة عليها من كل صوب وحدب، منذ هدم كنيسة صول بأطفيح وحتي مجزرة ميدان التحرير مرورا بمذبحة ماسبيرو، حاولت قوي الثورة المضادة بكل السبل الممكنة وغير الممكنة المشروعة وغير المشروعة هدمها عن طريق : التفتيت والانقسام والطائفية والفئوية، والإجهاز علي شعارات وأهداف الثورة في دولة quot; مدنية سلمية quot; ديمقراطية.
لقد كانت ثورة 25 يناير 2011 تختلف في أسبابها وأهدافها عن معظم الثورات السابقة، لم يحركها الفقر والجوع والبطالة أو الجهل والأمية، لأن الذي أشعل فتيلها هو الشباب المتعلم المثقف الواعي الذي فاق آبائه وحكومته الشائخة التي هرمت، واستطاع من خلال أدوات العصر أن يحقق المعادلة الصعبة، لذلك لم تكن الثورة المصرية هي ثورة طبقة مثلما هو الحال مع الثورة الفرنسية عام 1789، ولا ثورة فصيل بعينه أو قطاع في المجتمع مثلما هو الحال مع الثورة الروسية عام 1917، ولا ثورة دينية كالثورة الإسلامية في إيران عام 1979، أو حتي الثورات الملونة الحديثة كما هو الحال مع ثورات أوروبا الشرقية عام 1989 التي وقفت وراءها الرأسمالية العالمية في مواجهة الشيوعية والاتحاد السوفييتي السابق.
لقد كانت الانتخابات المصرية عرسا ديمقراطيا حقيقيا طال إنتظاره، بصرف النظر عن نتيجة هذه الانتخابات أو ما شابها من تجاوزات وسلبيات وقصور، لأن مشهد الطوابير الممتدة لأكثر من 500 مترا - والذي أبهر العالم - يعكس في الواقع الوعى الحضاري للشعب المصري، وحرصه علي صنع المستقبل الأفضل بنفسه، حتى كبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة حضروا بأنفسهم للإدلاء بأصواتهم، بل لم تشهد مصر حضورا وحشدا للمصريين في الخارج الذين حرصوا، رغم كل العقبات، علي أداء واجبهم الوطني وممارسة حقوقهم الديمقراطية من بلاد المهجر.
المخزون الثقافي عند المصريين، الذي هو أقدم من الأديان جميعا وأعمق من كل الفتن، ظهر بصورة واضحة أمام كاميرات المصورين والفضائيات العالمية، وكأن هناك عقل جمعي يحرك المصريين ورغبة واحدة تدفعهم وهدف واحد صوب أعينهم، الكل يتحرك في حركة واحدة مثل عقل إلكتروني كبير.
هذا المخزون الثقافي الذي تم اكتشافه في هذه الانتخابات، له علاقة بالتاريخ والجغرافيا والبيولوجيا أيضا، وحسب quot; أستامب quot; فإن مصر من أكثر البلدان التي يسهل غزوها لأنها مفتوحة من كل الاتجاهات أرضها منبسطة وتضاريسها أبسط، لكن يبدو أن من أصعب الأمور أن تغزو شعبها لأن السمات الجسدية والمزاجية والنفسية واحدة، ( 85% من جينات المصريين متشابهة ) حتي العادات والتقاليد والخرافات متشابهة، من هنا تكمن صعوبة غزوها عن طريق البشر أو استخدام سياسة ( فرق تسد )، فقد فشل الأستعمار الخارجي ( الإنجليزي والفرنسي ) وسيفشل حتما الإستعمار الداخلي ( الديني والطائفي ).
مصر شعب واحد يتكون من أغلبية مسلمة وأقليات مسيحية وبهائية ولا دينية، ولكنها ليست أقليات عرقية أو سلالية، هذا الشعب العظيم يتفاخر وسط شعوب الأرض بتماسكه الاجتماعي، هذه السمة المميزة ليست خاصة بالعصر الحالي فقط وإنما هي تمتد عبر آلاف السنين، وهي السمة التي ألهمت محمد علي باشا قبل قرنين من الزمان بناء الدولة المدنية الحديثة، ومن ثم قدم نماذجاً يحتذي من التلاحم بين المصريين جميعا.
ويسجل التاريخ في عامي 1908 و 1919 وجود رئيسا للوزراء من الأقباط وأيضا رئيساً لمجلس النواب، فضلا عن مجموعة من الوزراء الأقباط، لذلك ليس مستغرباً حين تلوح في الأفق بوادر فتنة دينية أو احتقان طائفي، أن يتم استحضار نموذج ثورة 1919 وشعارها quot; الدين لله والوطن للجميع quot; .. quot;عاش الهلال مع الصليب quot;، لأن المخزون الثقافي للشعب الواحد والوطن الواحد أقوي من الجميع، وهو الفائز الحقيقي في أول انتخابات بعد ثورة 25 يناير 2011.

[email protected]