التاريخ هو سلسلة من الأحداث والوقائع المتواصلة والمترابطة تبدأ من نقطة لتتصل بأخرى،وهكذا هي مسيرة الحياة البشرية تبدأ بمرحلة لتنتهي بأخرى، والعاقل من يستفيد من عبر ودروس هذا التاريخ وهو ماثل أمام الجميع. وبذلك يبدو أن السلالة الفرعونية في شقها السلطوي قد إتصل بالرئيس المصري حسني مبارك، الذي حكم مصر طوال ثلاثين سنة وكأنه آخر الفراعنة،هو أيضا علا في الأرض وتخيل نفسه الحاكم الاله كما كان الفراعنة يعتقدون، وإلا كيف أجاز لنفسه أن يتحكم برقاب 80 مليونا من المواطنين لثلاثين سنة آمرا ناهيا، ظالما للناس وقامعا للحريات، مغلقا أبواب السلطة إلا على حفنة صغيرة من أعوانه وبطانته الفاسدة التي عاثت بأرض مصر، وأفقرت شعبا كان يتفاخر بأن مصره هي درة الإسلام وجوهرة تاج العرب.

فلا ننسى عصور مصر الزاهرة، وكم أنجبت من العباقرة والعظماء في شتى المجالات الفكرية والإبداعية وبمختلف مراحل تاريخيها القديم والحديث، وإذا برؤساء لا بارك الله فيهم يملئون ملاهي الأرض في مشارقها ومغاربها بالراقصات المصريات المراغمات على بيع أجسادهن لسد لقمة العيش في بلد يحدثنا التاريخ بأنه مد شعوب الأرض وأممها بأسباب النجاة في سنوات القحط العجاف التي ضربت الأرض بفجر التاريخ.

سقط فرعون العصر بعد أن تجبر وطغى، فإستعاد الشعب حريته المسلوبة منذ قرون طويلة، وأخذ أخيرا يتجه الى فضاء الحرية التي فتحت أبوابها لتحتضن شعبا طالما علم الآخرين معاني الحرية والخلاص.

مشكلة حكام هذا العصر وخصوصا في شرقنا المتوسطي أنهم ما زالوا مخدرين بأوهام الماضي وبأمجاد مزيفة جندوا أدواتهم الأعلامية طوال عقود لحشوها بمخيلة الشباب، وأصبحوا بحكمهم الدكتاتوري أغبى على فهم وإستيعاب تطورات العصر، وكيف أن الفضاءات أصبحت اليوم مفتوحة أمام الجميع، وكيف دخل الإنترنيت الى كل بيت، بحيث بات على شاب عاطل عن العمل ناقما على السلطة أن ينشيء جروبا في الفايس بوك أو تويتر ليحشد في ظرف أسبوع مئات الألوف من الشباب ويوجههم الى ميدان التحرير، أو الى بارك ( آزادي ) بكردستان، أو الى مركز العاصمة الجزائر، أو ساحة التحرير ببغداد. وكيف أن وصول الفضائيات الى أبعد المناطق النائية أصبح بدوره عاملا في تأجيج الثورات، وكيف أن محمدا في تونس أصبح قادرا على إشعال الثورة ضد طاغية متجبر حكم بلده بالحديد والنار، ويدفعه الى الهرب يجر أذيال الخيبة والخذلان، وكيف أن وائلا يتحدى فرعون مصر ويدفعه الى الإختفاء محملا بالعار والشنار، وقد يفعله غدا بوحميد في الجزائر، أو كارزان في كردستان، أوعبدالمنعم في اليمن، أو رياض في سوريا وهكذا حتى تسقط آخر الدكتاتوريات في المنطقة لتستعيد شعوبها نسائم الحرية والخلاص وتنعم مثل بقية شعوب العالم بالديمقراطية والسلام.

في العقود الماضية عندما كانت الشعوب تثور كانت هناك تهما جاهزة توصم بها، وهي الخيانة والعمالة، وأن الثوار ما هم إلا أداة بيد الإستعمار، ولكن موضة اليوم أصبحت إلقاء تلك التهم على الفضائيات، وهذا ما لفت نظري بأحداث مصر عندما وجه النظام المصري إتهامات سخيفة الى قناتي الجزيرة والعربية بإثارتهما الناس في الشوارع، بل أن هذا النظام المتمدن والمتثيقف لم يتوان أو يتحرج أويشعر بالخزي وهو يأمر بوقف بث قناة الجزيرة أملا في وقف ثورة الشعب، وهذه ملاحظة أسوقها ليس دفاعا عن قناة الجزيرة التي لا أشك بأن لديها أجندات خاصة بالعمل ضد الأنظمة العربية، ممنيا الطغمة الحاكمة في قطر نفسها بأن تحتل موقع مصر في قيادة الأمة العربية رغم أن حجمها كدولة وشعب لا يؤهلها لأداء هذا الدور الكبير، ولكني أسوق الحديث لأبين مدى ضحالة تفكير بعض الحكام العرب الذين قد يتوهمون بأن فضائية أو إثنتان قادرتان على زعزعة أمن وإستقرار دولة ما !!.

نحن جيل نشأنا على كره أمريكا، وحشيت أدمغتنا منذ الصغر بإحتقارها ومعاداتها، وهناك ثلاثة أرباع دول العالم تعادي اليوم أمريكا وتسعى بكل إمكانيات دولها وشعوبها ومؤساتها أن تزعزع أمنها وإستقرارها، ولكن منذ أكثر من قرن تعجز جميع هذه الدول ومع كل هذه الإمكانيات الهائلة من أن تمس شعرة من إستقرار أمريكا، لسبب بسيط جدا وهو وجود المناعة لدى هذه الدولة الإمبريالية على حد زعم حكامنا. وهذه المناعة لم تأت من فراغ، بل كانت حصيلة نضال سياسي متواصل لعدة قرون وتتمثل بأروع نظام دستوري ديمقراطي يصوغه العقل البشري وهو النظام الديمقراطي الذي تعتمده أمريكا، هذا النظام الديمقراطي هو الضامن لإستقرار البلد ومواجهة مكائد شعوب وأمم الأرض المعادية لها، فهل تستطيع الجزيرة وجميع القنوات الفضائية وجيوش تلك الشعوب وكل قدراتها الإقتصادية أن تؤثر قيد أنملة على دفع الشعب الأمريكي للإنقلاب أو الثورة ضد حكومته؟.هذا شيء محال طالما هناك صناديق الإقتراع بإمكان الشعب الأمريكي أن يغير رئيسه وحكومته دون إراقة قطرة من الدماء. وهذه المناعة التي إكتسبها الشعب الأمريكي ومعظم الدول الغربية المتمدنة، بإمكان الشعوب في الشرق الأوسط أن تكتسبها أيضا ببعض الإصلاحات الديمقراطية وبتحويل دولها الى دول مؤسسات حقيقية، وليست مزيفة كما في مصر، فما نفع المؤسسات الدستورية بوجود حاكم يفصل الدستور على مقاسه؟ وما نفع برلمان أو مجلس الشعب لا يشترك فيه سوى حزب واحد من لون واحد طوال ثلاثين سنة؟؟!!.

لا يشترط على الشعب أن يثور دائما عندما يجوع، بل هناك أسباب أخرى تمهد للثورات الشعبية، في مقدمتها الحرمان من الحرية ومن الشعور بالكرامة الإنسانية ومن إستغلال الحكام الفاسدين وبطانتهم لخيرات الشعوب، وهذا يدفع حتى الأنظمة الحاكمة في البلدان الغنية التي تتمتع شعوبها بالرفاهية الى أن تراجع نفسها وتفتح أجوائها للديمقراطية، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كما يقول المثل، فلا ينخدعن بعض حكامنا بأن إشباع البطون الفارغة كاف لإسعاد الشعب ونيل رضاه على الحكومة، فلا قيمة للخبز من دون الحرية عندي، ولذلك أعتقد بأن الرسالة التي وصلتنا من تونس أولا ثم من مصر يفترض أن تحرك بقية حكام المنطقة للقيام بالتغيير قبل فوات الأوان، وأن تبدأ ما تبقى من الأنظمة الدكتاتورية بالشروع في إصلاحات جذرية لمواجهة أية تطورات قادمة على غرار ما جرى في تونس ومصر، فرياح التغيير قد هبت وستمر فوق سماء جميع دول المنطقة، والعاقل من لا يرتضي لنفسه جحر الفئران أو الإختباء داخل كهوف الجبال.