-1-
كنا قد كتبنا في مقالنا (مصر: هبوب نسائم الدولة الدينية، 1/6/2011) نقول:
من المسلَّم به، أن رياح الدولة الدينية بدأت بالهبوب على سطح النيل الرقراق. فمرحباً بالدولة الدينية، إذا كان هذا خيار الشعب المصري الديمقراطي السياسي السليم، الذي لا يشوبه عنف، ولا يشوبه المال السياسي، ولا يشوبه الضغط الديني الإعلامي والدعوي. فالوصول إلى الدولة المدنية الديمقراطية الحقة، لن يتم، ولن يتحقق، إلا إذا حكمتنا هذه الدولة وتجاوزنا حكم الدولة الدينية الوردية الحالمة، لكي نعرف بياضها من سوادها. فالتحقيق شرط التجاوز، كما قال الفيلسوف هيجل.
والدولة الدينية التي يحلم الإسلامويون في كافة أنحاء العالم العربي والإسلامي، لم توجد بعد. ويخطىء بعض المحللين عندما يأتي بإيران كدولة دينية حكمت إيران أكثر من ثلاثين عاماً منذ 1979. فإيران ليست دولة دينية، ولم تكن في يوم من الأيام دولة دينية، كذلك كان العثمانيون وغيرهم، ممن يدعون أنهم دولة دينية، وتطبق الشريعة الإسلامية. فهؤلاء يطبقون الحدود فقط حماية للسلطة السياسية ولنظامهم السياسي. ففي الوقت الذي يسكتون فيه، ويغضون النظر عن سرقة المال العام، والعبث به، واستشراء الفساد السياسي والمالي، في الوقت الذي يقطعون فيه يد جائع سارق لكسرة خبز يابسة. فالنظام الإيراني لا يساوي بين السنة والشيعة وبقية الطوائف الدينية الأخرى في إيران. والإسلام دين المساواة والعدل، فأين هم من هذه المساواة وذاك العدل؟
-2-
في شهر مارس/ آذار الماضي رصد الإعلام المصري عدداً من الملصقات في مساجد كليات جامعة القاهرة، تروج لأفكار تهاجم الدولة المدنية، وتصف الليبرالية بأنها دعوة لحرية الإلحاد والفجور، وتدعو لقيام دولة إسلامية لا مدنية، على أساس أن المدنية هي اللادينية، والإلحاد، والعلمانية، طبقاً لما جاء في الملصقات.
نموذج من الملصقات التي وضعها الإخوان المسلمون في مساجد جامعة القاهرة.
ووفقا للملصقات، فإن الليبرالية هي مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة، في السياسة والاقتصاد، وينادي بقبول أفكار الغير وأفعاله، حتى لو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله، شرط المعاملة بالمثل، والليبرالية السياسية تقوم على التعددية الإيديولوجية والتنظيمية الحزبية، والليبرالية الفكرية تقوم على حرية الاعتقاد وحرية الإلحاد، وحرية السلوك؛ أي حرية الفجور، بحسب الملصقات.
واعتبر ملصق آخر العَلْمانية هي اللادينية وفصل الدين عن المجتمع، ورفض الديانات السماوية، والاهتمام بالدنيا على حساب الآخرة، ونفي الدين عن كل مجالات الحياة، وطالب الملصق بدولة إسلامية في مصر، ورفض بوضوح قيام دولة مدنية.
-3-
قبل أيام حضر رونالد مينارودس المدير الإقليمي لمؤسسة quot;فريدريش ناومانquot; منتدى مفتوحاً فى القاهرة، حضره عدد من قيادات الأحزاب السياسية الأربعة التي تُعرِّف نفسها على أنها أحزاب ليبرالية، وهى: quot;حزب الجبهة الديمقراطيةquot;، وquot;حزب المصريين الأحرارquot;، وquot;حزب العدالةquot;، وquot; الحزب الديمقراطي الاجتماعيquot;. واتضح له أن القاسم المشترك بين هذه الأحزاب، هو توجهها العَلْمانى، وعدم توافقها مع الإخوان المسلمين. كما اتضح له أن قادة هذه الأحزاب بعيدون كل البعد عن تبنّي برنامج ليبرالي مشترك، ناهيك عن إستراتيجية موحدة.
-4-
وتبين لمينارودس، أن الغالبية العظمى من الشعب المصري ليس لديها أدنى فكرة عن معنى لفظ quot;ليبراليquot;. بينما يحاول الآخرون - وهذا هو النوع الأخطر - تشويه الليبرالية عن عمد، وتصوير الليبراليين بوصفهم غير أخلاقيين، وبدون قيم، وخونة.
وبأن الليبرالية مناهضة للقيم العربية والإسلامية. بل الأكثر من ذلك أنهم (الإخوان المسلمون، والسلفيون، والأصوليون، الدينيون) يصورن الليبراليين على أنهم ضد الدين. حيث شارك الكثير من المتعصبين الدينيين وغيرهم فى الحملات المناهضة لليبرالية على مدار السنوات، وهو ما أدى إلى خلق الكثير من الصور النمطية السلبية بين الشعب المصري، الشديد التدين.
-5-
ويقول مينارودس ما سبق أن قلناه في مقالنا (بين quot;فهلوةquot; الأصوليين وquot;خيبةquot; الليبراليين، 28/8/2010) حين نبهنا إلى ضرورة إتباع نهج الأصولية في الدعوة الليبرالية الجديدة. وقلنا:
quot;بينما تخلّصت الأصولية الدينية من لغة القرون الوسطى، وما قبلها، واستنبطت لنفسها لغة عربية مفهومة، وبسيطة، وغير عسيرة، ومباشرة، ظلت لغة الليبراليين لغة صعبة، وملتوية، ومتعالية، تخاطب النخب السياسية والثقافية، ولا تنزل إلى مستوى العامة، وتريد منهم أن يرقوا إليها، لا أن تنزل إليهم.quot;
وقلنا:
quot;ففي حين لم يقتصر عمل الأصولية الدينية الإعلامي على النشرات، وأشرطة التسجيل، وأشرطة الفيديو، وإنما النفاذ إلى الفضائيات العربية، والمواقع الإلكترونية على الانترنت، ومخاطبة ملايين الناس من خلالها، كان الليبراليون يتقوقعون في الكتب غالباً، التي لا توزع إلا بضع مئات، كما يتقوقعون في المجلات الدورية المتخصصة، وفي المنتديات الخاصة، والمؤتمرات المغلقة، ويُسمعون بعضهم بعضاً حلو الكلام ومرّه. وهم بذلك معزولون عن الشارع، وعن العامة، وعن سواد الناس. ويطالبون بالتغيير والتطوير والثورة، وهم بعيدون عن القاعدة الشعبية، التي تعتبر حطب هذا التغيير، والتطوير، والثورة.quot;
-6-
واليوم يردد مينارودس:
تكون الغلبة لليبراليين فقط، إن هم بدءوا يشرحون للناس بلغة بسيطة وسهلة ما يتبنونه من أفكار. فالليبرالية ليست شعاراً، بل هي مجموعة من المبادئ السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تعتبر بمثابة حجر الزاوية فى كل نظام سياسي ديمقراطي حديث: حرية الفرد، والمسؤولية الاجتماعية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، واقتصاد السوق، والتسامح.
-7-
ويقول مينارودس أنه سمع في منتدى القاهرة المذكور، من أحد الصحفيين، أن quot;معظم المتظاهرين فى ميدان التحرير كانوا ليبراليين دون أن يعلمواquot;. طبقاً للمثل الألماني القديم: quot;محتوى الصندوق أهم مما هو مكتوب عليه.quot;
-8-
كنا قد ذكرنا في الماضي، أن الجديد في الفكر الليبرالي العربي المعاصر، تأكيده على الثوابت، وتعميقه لمفهوم الحرية، والعدالة، والمساواة. وأهم هذه الثوابت:
1- المطالبة - بإصرار - بإصلاح التعليم الديني الظلامي، في ظل انتشار الإرهاب الديني، بعد أن تمَّ خطف الإسلام وتزويره، وأدلجته أدلجة دموية مسلحة.
2- الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي السياسي والدموي المسلح بكافة أشكاله.
3- تأكيد إخضاع المقدس والتراث والتشريع والقيم الأخلاقية للنقد العميق، وتطبيق النقد العلمي العقلاني بموجب مبدأ الجينيالوجياGenelogy الذي يتلخص بالسؤال التأويلـي (من ؟) وبالسؤال التقويمي (لماذا ؟)، وبحيث يكون النقد تأويلاً وتقويماً، لا مجرد سخرية وسباب، باعتبار إن الجينيالوجيا هي أداة وعي الحداثة، حيث يصبح النقد الحقيقي سبيلاً إلى الرشد الحقيقي.
4- اعتبار موقف الدين العدائي من الآخرين موقفاً جاء بناءً على ظروف سياسية واجتماعية معينة قبل خمسة عشر قرناً، ولم تعد هذه الظروف قائمة الآن، وإنما تغيرت تغيراً كلياً. فالمصالح متغيرة، والمواقف متغيرة. والتغير هو سُنّة الحياة.
5- اعتبار الأحكام الشرعية أحكاماً وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاماً عابرة للتاريخ كما يدعي بعض رجال الدين، ومثالها الأكبر حجاب المرأة، ونقاب المرأة، وميراث المرأة، وشهادة المرأة، وتولي المرأة المناصب السياسية والقضائية العليا.. الخ.
6- إن الفكر الديني، وهو الفكر الذي جاء به علماء الدين وفقهاؤه ورجاله وليس الدين الرسولي نفسه، يقف حجر عثرة أمام الفكر الحر والعلمي وتطوره.
7- لا يمكن إنتاج الحاضر بتاريخ الماضي، وإنما بتاريخ الحاضر، والمستقبل كذلك. وشرط تخطي الماضي قائم في الحاضر والمستقبل، وليس في الماضي. وخاصة ماضينا وتراثنا الثقافي الذي أقام مجزرة معرفية لنفسه بنفسه، وعادى الفلسفة بقيادة ابن تيمية والسيوطي وابن القيم الجوزية وغيرهم، وطرد العقل، واضطهد المعتزلة، وأغلق باب الاجتهاد، وحرّم علم الكلام، ونفى أصحاب المنطق، ووضع النصوص الدينية المزوّرة التي تحارب الفلسفة والحكمة وإعمال العقل (من تمنطق فقد تزندق)، وألغى العلوم الطبيعية والطب واعتبرها quot;علوماً دخيلةquot;، واستبدل بها العلوم الدينية والطب النبوي حتى أصبح النبي عليه السلام أشهر وأحذق من أبي الطب quot;أبوقراطquot;، وحرّم الموسيقا والغناء والنحت والرسم والشعر، وكافة أشكال الفنون الإنسانية الرفيعة. فكيف يمكن الاستعانة بهذا الماضي للعبور من الحاضر إلى المستقبل؟
8- إن ضعفنا، وهزالنا، وقلة معرفتنا، وعجزنا العلمي والعقلاني هو الذي يؤدي بنا إلى الاتجاه إما إلى الماضي للاستعانة به لبناء الحاضر، وهي أسوأ الخيارات، حيث لا يملك الماضي إلا ماضيه فقط الذي انتهت صلاحيته في وقت مضى، ولم يعد صالحاً للحاضر، وإما اللجوء إلى الخارج لبناء الحاضر، وهي أقل الخيارات سوءاً .
9- الإقرار بأن التاريخ محكوم بالقوانين، وليس بهوى الشعوب، ولا بخيالها، ولا بتعلقها بماضيها. ولا شعب يقدر على تشكيل التاريخ حسب رغبته بالعودة إلى الوراء، واستعادة أمجاد سالفة ومدنية وحضارة سابقة. وأن الكمال البشري كما قال قاسم أمين ليس في الماضي.
10- الإيمان بأن اغتراب العقل لا يحقق غير سيادة الهمجية، والغوغائية، والمجتمع الدموي.
11- طرح أسئلة - على كافة المستويات - لم يسبق طرحها في الماضي من قبل تنويريي القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، بدءاً من الأفغاني وانتهاءً بطه حسين، وكسر جوزة المسكوت عنه، وتفكيك وتحليل ما بداخلها.
12- تبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية. والتفريق بين الحداثة الغربية والحداثة العربية. فلكل أمة حداثتها الخاصة بها.
13- تحرير النفس العربية من أوهامها، ومن السحر، والتعاويذ، والشعوذة التي تحيط بها.
14- العودة إلى الذات ونقدها. والعودة إلى الوعي بالذات، لا كأفراد، ولكن كأمة. ولا يكفي أن نهزم الأساطير، ولكن علينا ملاحقة ظلالها في الكهوف أيضاً.
15- المطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة والتوظيف. وتبنّي مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي صدرت 1957 والتي تعتبر النموذج العربي الأمثل لتحرير المرأة العربية، دون الحاجة إلى تبني قيم الغرب في تحرير المرأة، ومساواتها بالرجل.
-9-
فهل هذه المطالب والثوابت والمباديء الليبرالية فجور وإلحاد، برأي جماعة الإخوان المسلمين، كما جاء في ملصقاتهم، في مساجد جامعة القاهرة، في مارس الماضي؟
وهل هذه الملصقات وغيرها من التصريحات المتناقضة (دولة مدنية بمرجعية دينية، ودولة دينية بمرجعية مدنية.. الخ) التي يطلقها بعض قيادي الإخوان المسلمون من حين للآخر، والتي يتلاعب بها الإخوان، كما جاء في مقالي الاستاذين: عزيز الحاج، وحسين كركوش، هي حقيقة الليبرالية التي نؤمن بها، وندافع عنها؟
فإن كانت كذلك، فكل حياتنا إذن، من ألفها الى يائها فجور، وإلحاد!
السلام عليكم.
التعليقات