في مؤلفه ndash; المبادىء الأولى ndash; ص 237 يحدد الفيلسوف الأنكليزي هربرت سبنسر ( 1820 ndash; 1903 ) مفهوم التطور بالصيغة التالية ndash; التطور تكامل للمادة ، يرافقه جهد حركي ، وتنتقل خلاله المادة من حالة اللاتعيين والتجانس غير المترابط إلى حالة التعيين واللاتجانس المترابط ، ويطرأ على الحركة ، المحفوظة من قبل المادة ، تحولات مماثلة - .
هذا المحتوى الميكانيكي للتطور ، يصوغه هربرت سبنسر على مدار مؤلفه السابق طبقاُ لتعانق ثلاثة محاور جوهرية ، متداخلة بعض الشيء ، منفصمة في البعض الآخر ،
المحور الأول : هو الأنتقال من الأولي إلى المركب ، من البسيط إلى المعقد ، وهو المحور الذي نسميه بالدائري ، لأنه الأنتقال من بساطة الوظيفة إلى تعقيدها ، من البداية الخاصة إلى نهايتها .
المحور الثاني : هو الأنتقال من التماثل إلى اللاتماثل ، من التجانس إلى اللاتجانس ، وهو المحور الذي نسميه بالأفقي ، لأنه الأنتقال من الحالة الواحدة إلى تنوعها ، ثم إلى تنوع التنوع ، ثم إلى مفهوم الأختلاف .
المحور الثالث : هو الأرتقاء في درجة النوع أو المادة ، أي الأنتقال من اللامتعين إلى المتعين ، وهو المحور الذي نسميه بالشاقولي ، لأنه تصاعدي لولبي .
هذه المحاور الثلاثة ، التي تؤلف أساس مبدأ التطور ، تلزم المادة أن تتجاوز خاصيتها الكيميائية البيولوجية ، لتضفي على طبيعة الأشياء ، في الحقيقة على ذاتها ، المحتوى المناسب والموازي .
وهي ، أي المادة ، لاتضفي على نفسها المحتوى المناسب إلا من خلال مفهوم أستثنائي شديد الخصوصية لدى سبنسر ، ألا وهو ، وكأن المادة تحايث حالة من توازن القوى أو المسوغات الفاعلة أو العلل الفعالة في بنيتها الداخلية أو على حد تعبيره الفلسفي في ص 291 من المبادىء الأولى ndash; إن للتطور حداُ لايمكن تجاوزه أبداُ ndash;
كيف يحدث ذلك ، لنوضح ، هربرت سبنسر ينطلق من نقطة جوهرية تسيطر على كل مدارك تصوره الفلسفي ، وهذه النقطة هي مفهوم القوة ، مبدأ ثبات القوة ، مبدأ أستمرارية القوة ، فالقوة هي ك( وجودها ، ثباتها ، أستمراريتها ) تتصارع ضمن محورين ، المحور الأول : كسبب فاعل ، كقانون يحرك المادة ، كمسؤول عن الحركة والمادة . المحور الثاني : كالعلة النهائية ، كالمسوغ الذي يلجم كل شيء لمصلحة أنتصار المبدأ العام في التكوين والتطور ..
لذلك فإن مبدأ ديمومة القوة ، وبخلاف ما يعتقد الكثيرون ، هوالذي يضفي على محتوى المادة قانونndash; عدم قابلية المادة للفناء ndash; أو مبدأ ثبات المادة ، فالمادة التي هي بنفسها لاتحفظ ذاتها ، مدينة لمبدأ ثبات القوة في داخلها . لكن ننوه إن هربرت سبنسر نفسه لم يستطع حسم الأمر ، وأرتبك في كيفية تحديد الأولوية ، أو التوافقية ما بين المبدأين ، كيلا يقع في مخالب تعارضات أخرى ، أو على الأقل كي لايلزم نفسه بإيضاحات هو لايستطيع ، في النهاية ، إيضاحها .
وهذا المبدأ الثاني ، أي مبدأ ثبات المادة ، هو في الفعل ، حسب سبنسر ، عديم القيمة والمضمون إلا إذا أخذ أبعاده الأصلية من المبدأ الأول ، أي مبدأ ثبات القوة ، وهذا الأخير ينبغي أن ندركه كمنطوق إلهي ، كمنظوم شمولي داخلي وخارجي ، لأن القوة ، كقوة الآن ، هي القوة الإلهية أيضاُ .
ومن هنا تحديداُ يضطر سبنسر أن يقر بالميدأ الثالث وهو مبدأ أستمرارية الحركة ، وكيف لا ، وهو يدرك كم هي ضروري العلاقة ما بين مسألة القوة ، وثبات المادة ( لأنها هي الوحيدة القائمة أمام ناظريه ) ، وأستمرارية الحركة ( لأنها هي الوحيدة التي تمنح البقية مفهوم الوضعية ، والوضعية الأجتماعية ndash; جون ستيوارت ميل ، أوغوست كونت - ) ، وكيف لا ، وهو يدري بحجم العلاقة ما بين هذه المبادىء ، ومحاور التطور في الثالوث ndash; التقادم ، التباين ، التكامل ndash; الذي لايمكن أن يستقيم ، حسب سبنسر ، إلا إذا أغتذت من تلك المبادىء تحديداُ ...
ومن هنا تحديداُ ، وأنسجاماُ مع مسألة القوة ، ومبدأ ثبات المادة ، ومبدأ أستمرارية الحركة وعلاقتها مع المحاور الثلاثة للتطور ، يضطر سبنسر أن يثبت فحوى هذا الأخير عند ذلك المستوى ndash; إن للتطور حداٌ لايمكن تجاوزه أبداُ ndash; ولأجل أن يقنع نفسه ثم الآخرين ، لامحيض إلا أن يؤكد وجود حالة توازن أو تعادل ( ومن هنا نرى أولوية مبدأ ثبات القوة ) التي عندها يبلغ مفهوم التطور سقفه الأعلى ، ذلك السقف الذي قد يطيح بكل ما أسسه سبنسر من مبادىء ، لذلك كي يمنح تلك المبادىء الثلاثة الفعالية المنشودة ، وينقذها من الجمود والسقوط يؤكد إن هذه الحالة لاتدوم وسيصيبها ما يسميه بالأنحلال ، لتعود تلك المبادىء إلى الظهور وتلملم ذواتها ، وهكذا تبدأ دورة جديدة في محتوى مبدأ التطور العام ..
وقبل أن نذهب إلى تحديد ما تناقض مع نفسه لدى سبنسر ، أحبذ أن أسجل نقطة في غاية الأهمية ، ومفادها ثمت من أعتقد إن سبنسر في لحظة معينة من مراحل فلسفته أنتقل في مستوى مبدأ ثبات القوة من محتوى منطوقها الإلهي إلى منطوقها الفيزيائي . هذا التصور خاطىء وباطل تماماُ ، لسبب بسيط هو إن الوضعية كمذهب ndash; سبنسر ، جون ستيوارت ميل ، أوغست كونت ndash; حاربت بقوة ضد المذهب المادي ، من خلال محاولتهم العاقرة في المصالحة الأبدية ما بين العلم وبالذات العلم التجريبي والإيمان والدين ، فكانت الفيزياء ، لدى سبنسر ،العمود الفقري ، والسيدة المطيعة ، للقيام بهذه المهمة التاريخية ....
التناقض الأول : يؤكد سبنسر إن التطور في أعلى مراحله يبلغ ما يسميه بحالة التوازن أو التعادل والسؤال هنا هو ،كيف أدرك إن التطور سيبلغ هذه النقطة الحرجة ، أو قد بلغها ، وسوف يبلغها مراراُ ، فهل دلل عليها بالقرينة ، أم حايثها وعاينها بمستجداتها ، أم توقع ذلك بالرجحان .
في الحالة الأولى هو لم يدلل على أي شيء ، بأستثناء فكرته الأساسية في تشابه حال المجتمعات بحال الجنين أو الطفل ، وهذا مردود من عدة أوجه ، الوجه الأول : تشبيه حال المجتمع بحال الطفل ، أو تشبيه حال المادة بحال ما لايعد قرينة ولايعتد بتداعياتها ، إنما هو في أعظم الأحوال أستئناس ووسيلة للإدراك أو الفهم . الوجه الثاني : ومتى يبلغ الطفل مرحلة التوازن السبنسري ، أليست حال الوفاة ، بمعنى عدم القدرة على الأستمرارية في المرحلة الأولى ndash; الحياة ndash; وهذا لا يحتسب توازناُ إنما إنهاءاُ وقضاءاُ عليها ، لأنه على أثرها تنتهي العوامل السابقة القديمة قسرياٌ ، وليس توازناُ ، لتخلق عوامل جديدة ، عوامل التفسخ والأنحلال السبنسري . الوجه الثالث : وإذا كانت عوامل التفسخ قد بدأت ، فمن أين تأتي عوامل إعادة التركيب والأنتاج والأستمرارية !! .
أما في الحالة الثانية فليدلنا على كيفية ما حايث وعاين ، ولم لم يذكر حالات تحقق هذه المعطيات . فلا يكفي القول بوجود حالة توازن أو التعادل إنما ينبغي الوقوف عليها بدقة بالغة مثلما الوقوف على أي ظاهرة طبيعية في الكون .
أما في الحالة الثالثة فلا يفيد التوقع بالرجحان ، لأن المسألة ليست محصورة ما بين عدة أحتمالات ، حتى نتحدث بقوانين التوقعات والأحتمالات ، فلا يمكنني أن أتوقع إن عفريتاُ قد مر من هناك وخلق الكرة الرضية ، لكن بالمقابل حينما أطرح إن أصلها يندرج ضمن عدة أحتمالات ( حتى لو كانت مليون ) تنبثق من خصوصياتها ، وأنا أتوقع أو أرجح أن يكون الأحتمال - الثالث ndash; هو الأصدق ، فالمسألة عندها تغدو جدية وقابلة للنقاش ..
التناقض الثاني : عندما يدعي سبنسر إننا إزاء ثالوث متعاقب متجدد ndash; تطور ndash; تفسخ ndash; تطور جديد ndash; ثم تفسخ وتطور ، فهل ثمة معنى محدد لحالة التوازن الأولى ثم الحالة الثانية وهكذا ، أي هل المعنى تاريخي أم لاتاريخي ، وهل الشروط المسؤولة عن حالات التوازن هي موضوعية ذاتية ( وبالتالي تاريخية ) أم فوضوية ذاتية ( وبالتالي لاتاريخية ) ، فإذا كانت من النوع الأول ، فينبغي أن يكون التفسخ أو الأنحلال جزءاُ من حقيقة الشروط ، ولكييكون ( التفسخ ) جزءاُ منها ، لامناص إلا ألا يكون ( تفسخاٌ ) ، إنما تحولاُ ، أنعطافاُ ، أنكساراُ ، قطيعة ، شرخاُ ، أي شيء إلا تفسخاُ . وإذا كانت من النوع الثاني ، فالفرضية باطلة لبطلان أساس معيار الفوضوية ..
التناقض الثالث : من المعيب جداُ أن نتحدث عن مفهوم التوازن ومحتوى الأنحلال ، فهما أمران لاينسجمان فلسفياُ ، لأن الأنحلال لايخلق هذه الحالة مع اللاأنحلال ، إنما كان الأجدر به الحديث عن السلب والإيجاب في حالة التعادل ، لأن التوازن ، بصورة عامة ، حالة بنيوية ، وليست حالة تعاقبية كما في ذهن سبنسر .
التناقض الرابع : ثم من المعيب أكثر ، أن يتحدث سبنسر عن التطور والدورات الأنحلالية المتعاقبة التي لاتسمح أصلاُ بالتطور الذي يمكن قبوله في حالة واحدة وهي حقيقة الأنتقال من المتجانس إلى اللامتجانس ، ومن اللامتعين إلى المتعين ، ولايمكن قبوله ضمن مفهوم التفسخ والأنحلال ، والعودة إلى عوامل أولية جديدة ..
التناقض الخامس :التطور لدى سبنسر لايرتقي إلى مستوى المبدأُ ، كما توهم البعض ،إنما هو فقط في المحتوى ، ويتجلى ذلك في الآتي : ثمت فرق هائل ما بين المفهوم الكانتي ( الشيء في ذاته ) والمفهوم السبنسري ( إن وراء الأشياء كلها سراُ غامضاُ ، يستحيل الوقوف عليه ) . فالأول هو المفاصلة ما بين مفهومي الجوهر والظاهر وعدم أمكان أدراك محتوى ndash; الشيء في ذاته -، أما الثاني هو ظهور التناقض ما بين الحيثيات ، فكلما عالج سبنسر موضوعاُ ميتافيزيقياُ ( اللانهائي والمحدود ، تجزئة المادة وعدم تجزئنها ، المنفصل والمتصل ، ألخ ) أستخلص في النهاية تناقضاُ ما بين المنظورين ، وأستنبط في النهاية إن هذه التناقضات تمنعه أو تطيح بالمصداقية . ومن هنا تحدث معظم الفلاسفة خطأ عن ndash; لا أدرية سبنسر - .
وأعتراضنا ليس على هذه المغالطة ، بل هو يستفيد من هذا الوجه ، ليبين وليؤكد إن هذه التناقضات المزعومة ، في الأصل الفلسفي ، لاعلاقة لها بمفهوم التطور لدى سبنسر في أصل المادة والمجتمع ، وهكذا نستنتج إن التطور- حسب تصوره - هو حالة وليس صيرورة ، هو فعل حدثي وليس فعل تلازمي ، لذلك يطرح خطأ مفهوم حالة التوازن والتعادل ، ثم مفهوم الأنحلال ، ثم الدورات التعقيبية المتتالية للتطور .
التناقض السادس : حينما يعتقد سبنسر إن مبدأ ثبات القوة مع مبدأ عدم فناء المادة هو الأولي والأصل ، ليتجلى بعده مبدأ أستمرارية الحركة أو ثباتها يرتكب مغالطة في قوانين وخصوصيات الكون ، فلايعقل أن تتقدم القوة أو المادة على الحركة( والتناقض ) . وهنا ينبغي أن نكون حذرين ، بل حذرين جداُ ، فالموضوع لايتعلق بمقولة واحدة أو تفسير وحيد الأتجاه ، لماذا ؟ عندما نؤكد إنه لاتوجد قوة أو مادة بدون حركة ، ولا توجد حركة بدون مادة أوقوة ، فنحن لانؤكد إلا ما نسميه ndash; مبدأ القصور الذاتي للطبيعة البشرية ndash; فهل ، نحن البشر ، ندرك كا فة أنواع وأشكال وصور القوة ، أم الحركة ، أم المادة ، وفي مراحل معينة من الوجود العام ( الوجود ما قبل كوننا هذا ، ثم مرحلة كوننا ، ثم ربما مرحلة ما بعده ) فلو أجبنا بنعم فهذه مجازفة ما بعدها مجازفة ، وإذا أجبنا بلا ، فلامناص حينئذ من مقارنة تلك المقولات الثلاثة ، ولدى المقارنة تبقى الحركة هي العنصر الأقوى ، والأصلب متانة ، لاسيما للتفكير غير البشري ..
وليس غريباٌ ، على الأطلاق ، أن نكتشف في مرحلة معينة من البحث العلمي ، إن تكون المادة ( والقوة ) إحدى أشكال وأنواع تطورالحركة نفسها ، لذلك نحن نرفض ، رفضاُ باتاُ ، فرضية التجمع السديمي لتفسير أصل الكون ، فالكون ينبغي أن ( يولد من ) لا أن ( يتكون في ) أو أن ( يتعاقب بعد ) ..
التناقض السابع : في تركيز سبنسر على تناقض ( المنفصل والمتصل ، اللانهائي والمحدود ) يخلط ما بين الواقعي والمفهوم ، وينسى العلاقة ما بينهما ،فالجانب النظري يوحي بحيثيات قد لايقرها الجانب العملي ، وهذا واضح وصريح في هذا المثال تحديداُ ، فإدراك المنفصل والمتصل ، اللانهائي والمحدود شيء مستقل تماماُ عن جريانها وحدوثها على أرضية الواقع ، وكلاهما مستقلان عن كيفية التعامل معها ، ونعي صحة ومصداقية هذا القول إذا علمنا إن لاشيء يتجاوز محتوى ndash; وحداته ndash; الخاصة ( الذرات أو الخلايا ) التي تؤلفه ، ودليلنا الكيميائي على ما تقدم ndash; لكن من زاوية مختلفة ndash; هو أتحاد ذرات معينة من عناصر مختلفة لتوليد عنصر جديد يتصف بخاصيات جديدة لاتمت بصلة إلى العناصر الأساسية المؤتلفة ( مثل الماء ، غاز الميتان ، وغاز الإيتلين ، وغيرها ..) ..
التناقض الثامن : يزعم سبنسر إن التطور هو تكامل للمادة ، كيف ذلك ؟ هو لايستطيع أن يدعي إن التطور هو تكامل للوجود أو للوعي أو للعقل لأسباب تتعلق بخواص المذهب الوضعي نفسه ، وكذلك لايستطيع أن يلتجىء إلى المسائل الميتافيزيقية لأنها ndash; حسبه ndash; متناقضة أو غير قابلة للأدراك . فلم يبق أمامه سوى المادة لكنه ، هو نفسه ، من يخذلها في تصوره العام ، من خلال مفهوم الأنحلال والتفسخ ، والدورات التعقيبية اللامبررة ، ومن خلال عدم تفسيره لتلك القوى والعوامل التي تصبو نحو حالة التوازن ، ومن ثم من خلال عدم إجابته على السؤال الفلسفي الأولي : إلى ماذا يهدف مبدأ التطور هذا ، أي مبدأ التطور لدى سبنسر !! . وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشر .