لا شك أن التغيير الذي طرأ على المشهد السياسي في إقليم كردستان العراق وتشكيل حكومة ائتلافية برئاسة الدكتور برهم صالح كانت إحدى أهم الظواهر الايجابية التي أفرزتها إنتخابات تموز ٢٠٠٩ في الإقليم لأنها كانت وليدة ظروف سياسية معقدة مر بها إلاقليم في الأعوام الأخيرة.
وكان تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور برهم صالح وبتكليف من القائمة الكردستانية التي فازت بأنتخابات 2009 بمثابة الإختبار الحقيقي للحزبين الكردين المتحالفين من أجل تصحيح المسار السياسي وحل معضلات الفساد. وعلى ضوء ذلك فالحكومة الجديدة التي شكلت كانت تحتاج الى وقت كاف والى جهود كبيرة لأنتشال هذه الجماهيير من الأوضاع السلبية وعلى المستويات كافة.
ولكن حكومة الدكتور برهم صالح لم تتمكن تماماً من ممارسة مهامها بشكل أوسع ولو وفق منطق استثنائي ينسجم مع وضع المرحلة الانتقالية.
وقد تعرض الدكتور برهم صالح لحملة إعلامية مغرضة بسبب تضرر الحزبين المتحالفين quot;حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الحزب الديمقراطي الكردساتانيquot; بالدرجة الأولى من حملة إصلاحات حكومته.
وإطلاق هذه السياسة الإصلاحية من قبل الدكتور برهم صالح كانت ضرورة سياسية ملحة بعد إنتهاء إلانتخابات البرلمانية من أجل تطبيق برنامج عمل القائمة الكردستانية والذي تم الأتفاق عليه، وخاصة فيما يتعلق بقضية إزالة الفساد وفصل سلطة الحزب عن الحكومة وتلبية تطلعات الشعب والتجاوب مع طموحاتهم المشروعة لكردستان أفضل.
ولكن قبل اتمام عملية الاصلاح الجارية للحكومة صدم الدكتور برهم صالح الجميع بعدما كشف النقاب قبل أيام عن تقديم طلب إستقالته وبدون ذكر الأسباب، وبحسب رأي المراقبين فإن إقليم كردستان يعاني أزمة نظام مجددا. فالمشكلة الحقيقية برأيهم تكمن في عدم وجود مفهوم جامع للنظام السياسي في إلاقليم الى حد الان.
فالنظام السياسي في إلاقليم قائم على توازن القوى ووجود مراكز قوى متعددة ومتوازنة. وهذا النظام نظام تقليدي مبني على أفكار يمكن العثور عليه في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة.

وبالأستناد عليه يمكننا شرح خصائص النظام السياسي المتبع في إلاقليم وفهم البنية التي يقوم عليها المجتمع السياسي الكردستاني، ومعرفة الأساليب المستخدمة للأبقاء على التوازن السائد فيه.
ففي هذا النظام لا نعثر على فرد ولا على مجتمع لأن الجماعات (أي الاحزاب) وحدها هي التي تتحرك وتغطي الساحة. ولهذا يبقى الفرد أو المواطن خارج المسرح السياسي، ويغيب المجتمع الوطني المتلاحم لأن كل حزب في منطقة يعتبر نفسه مجتمعا قائما بذاته لا تربطه بالمجتمعات المتجاورة الا روابط واهية تفرضها فكرة الأستمرار في التعايش وصون المصالح الخاصة المتقلبة. (راجعوا وجود إدارتين في أربيل والسليمانية الى حد الان)
وبنتيجة هذا الوضع تتحول الحياة السياسية الى عمليات ضغط وتجاذب وتكاذب ونفاق تمارسها الجماعات السياسية القائمة على الولاءات المناطقية والعشائرية لتحقيق بعض المكاسب، ولو أدى ذلك في بعض الأحيان الى دخول في معارك دامية ( راجعوا ملف الهجوم على مقرات المعارضة) ويتحول الفرد الى أداة لخدمة مارب جماعته، فتغيب مواقفه السياسية وتتلاشى شخصيته. وتتحول الدولة الى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات السياسية، أو الى مزرعة يتقاسم خيراتها ويصبح الزعماء المناطقيون المرجع الوحيد لكل طالب خدمة أو وظيفة.
هذا النوع من النظام السياسي يساعدنا على فهم النظام الكردستاني الذي يعتمد على صيغة مبدأ تقوم على توازن قوى دقيق بين قوى مختلفة ومراكز قرارات متباعدة. وجميع هذه القوى والمراكز مكرهة بشكل عام، خشية أن يختل التوازن، على إتباع أسلوب التفاهم المتقطع الذي يتخلله أحيانا ميل الى المناورة أو الخصومة الحادة التي قد تنتهي باستخدام القوة.
ومن خصائص هذا التوازن أنه لايسمح لجماعة سياسية من الجماعات التي يتكون من المجتمع بفرض نفسها على غيرها بصورة دائمة، ولعل السبب يكمن في أنها لاتملك (او لايسمح لها بأن تملك) من القوة ما يؤهلها للأستيلاء على السلطة. ولهذا يبقى الاتفاق أو التوافق المشوب بالرياء الصيغة الحتمية لتأمين التعايش، لا العيش، بين هذه الجماعات المتنافرة.
وفي غمرة الحرص على تأمين التوازن تتلاشى فكرة الوطن، وتتبخر فكرة الدولة وتضيع المصلحة العامة ويتحول البلد الى ميدان سباق للمصالح الخاصة يديره ويسيره زعماء الجماعات السياسية فينظمون حفلاته و يتقاسمون ريعها ويتركون للناس حرية التفرج والتصفيق، وأحيانا حرية الصراخ للتعبير عن فرحة عابرة او نقمة طارئة.
أما الوطنيون ومن معهم من الشرفاء الذين حرصوا على النظام السياسي السليم ويؤكدون على ضرورة سيادة القانون، الذين حاولوا أن يعبروا عن اراءهم فيما يحدث، فلقد مارس زعماء تلك الجماعات السياسية كل أساليب الضغط والأذلال حتى كاد يلغيهم تماما.. ويوما بعد يوم تزايدت وسائل التأديب شراسة من عدم أحترام وجود المعارضة السياسية، الى فرض نوع من الرقابة على الصحافة الاهلية والتضييق على الحريات العامة، فالى تهميش مؤسسة رئاسة مجلس الوزراء برئاسة الدكتور برهم صالح، بأعتبار انه الوجه الأبرز للحضور السياسي لإقليم كردستان بكل ما تمثله وترمز اليه.
ومن المفيد أن نشير هنا الى إقليم كردستان منذ عام 2009 ومع تولي نائب الوزراء العراقي السابق الدكتور برهم صالح رئاسة الحكومة قام بإصلاح العديد من ألاعطال التي أصابت نظامه. ودعم العديد من المؤسسات والمنظمات والجمعيات المدنية التي لاتقوم على أساس حزبي وقام بتخفيف وطأة التعصب الحزبي والمناطقي في نطاق العمل الحكومي، لكن الحملات السياسية المغرضة التي أدت الى استقالة الدكتور برهم صالح جاءت لتلغي بعض هذه المكاسب وتؤجج العصبية الحزبية والمناطقية وترفع من الخارجين على القانون والضمير والمتاجرين بالأرواح والمتأمرين على مصير شعب آمن ومسالم.