قراءة الأحداث المتسارعة من حولنا علي اعتبار أنها quot; بداية quot; وquot; منعطفquot; تاريخي جديد لمرحلة قادمة، هي إحدي الأخطاء المنهجية الشائعة في التفكير. فقد نبهنا الفيلسوف ومؤرخ الأفكار الهولندي quot; يوهان هويزنجا quot; في كتابه العلامة quot; اضمحلال العصور الوسطي quot; إلي أن الأحداث الكبري كالثورات والحروب وانهيار الأنطمة الفكرية والسياسية قد تكون quot; نهايات quot; لمرحلة تاريخية كاملة (تغرب شمسها) وليست بالضرورة quot; بدايات quot; فجر جديد وعصر جديد، هذه الفكرة المبدعة لا تنطبق اليوم قدر انطباقها علي الثورات العربية أو ما عرف مجازا بالربيع العربي الذي بدأ في يناير عام 2011 ولم يزهر بعد!
يترتب علي هذا الخطأ المنهجي، هو أننا ndash; ولا أستثني نفسي - مازلنا نقرأ الأحداث الجديدة في القرن الحادي والعشرين بنفس المفاهيم الموروثة من القرن العشرين، يتجلي ذلك في استجاباتنا الفكرية لحركة الثورات العربية في صعودها وهبوطها في زخمها وانكسارها في حاضرها ومستقبلها، نستحضر ndash; في تشخيصها - تجارب الثورات السابقة ضد الاستعمار الأجنبي وتحديدا قبل أكثر من نصف القرن (1952).
مازلنا نستعير الشرعية من الماضي ونتوسل مفرداته ومصطلحاته حتي نفهم حاضرنا ومستقبلنا، وهو ما يجعلنا نكرر نفس المعارك القديمة ونخوض في غمار الطرق المأهواة والمعتادة لا أن نحاول أن نستكشف الجديد في قلب الأحداث وعبرها.
هذه المقدمة النظرية ضرورية لأن النقد الذاتي يبدد غيوم الرؤية، ويفسح المجال شفافا واسعا صوب الآفاق الممتدة من حولنا. علي سبيل المثال لم نتحرر بعد من ثنائية quot; العسكر quot; وquot; الأخوان quot; قبل أكثر من ستين عاما، وأصبحنا محكومين بهاجس (إما... أو) وفي أفضل الأحوال نتحدث عن: quot; الجيش المتأسلم quot; أو quot; عسكرة الأخوان quot;، أما النماذج التي (نتثاقف) حولها ونحن نطرح سيناريوهات المستقبل فهي لا تخرج عما عهدناه في القرن العشرين: النموذج الباكستاني والنموذج التركي والنموذج الإيراني..... إلي آخر هذه النماذج التي تقدم صيغا متنوعة ومتباينة للحكم تم اختبارها وتجريبها من قبل.
ولأننا محكومون برؤي مسبقة دائما نفرضها فرضا علي الواقع الجديد الذي يسخر من كسلنا العقلي، لم نفكر (ولو للحظة) مثلا أن هذه النماذج نفسها التي نسعي إلي تطبيقها في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها، في سبيلها إلي زوال وأفول، وربما تعيش الآن في فترة quot; اضمحلال quot; كنتيجة حتمية لنهاية الدولة القومية الحديثة التي بدأت مع معاهدة quot; ويست فاليا quot; عام 1648.
لم يدر بخلدنا أن نجاح الإسلاميين (بجهودهم الذاتية quot; أو الخارجية quot; أو بإختطاف الثورات) هو quot; نهاية quot; نظام قديم وليس ميلادا لنظام سياسي جديد، وأن هذا النجاح quot; مرحلي quot; لكنه quot; ضروري quot;، الغرض منه (تفكيك) المؤسسات العسكرية في كل بلد عربي وإسلامي علي حدة، فالسؤال المطروح اليوم داخل جل مراكز الأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة، هو: هل تنجح الحكومات الإسلامية في تحرير نفسها من سيطرة المؤسسات العسكرية القوية في مصر وباكستان وتركيا؟
ربما كان الهتاف الأبرز الذي تردد صداه في ميدان التحرير منذ مطلع عام 2012: quot; يسقط يسقط حكم العسكر.. أحنا في دولة مش معسكر quot;، quot; يا للا يا مصري خليك راجل.. الطنطاوي راحل راحل quot;، هو تعبير عن (عقل جمعي) يحرك مختلف التيارات السياسية والإيديولوجية، التي أصبحت علي قناعة اليوم: بأن المجلس العسكري الحاكم فشل في إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية وهو المسؤول الأول عن التردي غير المسبوق الذي وصلت إليه مصر، فضلا عن أنه أثبت للجميع ndash; دون أن يدري وربما علي غير رغبته - أنه جزء لا يتجزأ من نظام مبارك الفاسد المستبد الذي لم يسقط بعد، والأهم من ذلك هو عدم قدرته علي استيعاب متغيرات العصر الجديد واستحقاقاته، خاصة وأن quot; المياة الجوفية quot; العالمية تسير بإتجاه إسقاط الأنظمة العسكرية quot; القومية quot; وليس (نظام بوليو 1952) فقط.
فكرة quot; نهاية الدولة القومية quot; لا تزال عصية علي الفهم والاستيعاب في الشرق الأوسط الكبير، لأن معظم الأنظمة السياسية الحاكمة علي تباينها غير قادرة علي تطوير نفسها بإتجاه الاندماج في النظام العالمي الجديد الذي يتشكل حولنا، وإنما تقف عقبة كأداء في سبيل تحققه واستكمال مقوماته وأسسه. وربما كانت فكرة quot; شرق أوسط إسلامي quot; هي أحد الأفكار الجاري تطبيقها وتجريبها، من أجل تحطيم الفكرة quot; القومية quot; وتفكيك المؤسسات العسكرية الداعمة لها، وتعبيد الطريق جيدا أمام ميلاد الجديد.
وللحديث بقية....
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات