تؤكد الانتفاضة الشعبية الأخيرة أن عدة أمور لم تكن بخير في الدول العربية، و من بينها الإدارة أي مجمل المؤسسات العمومية المسئولة عن تنظيم شؤون الدولة و تقديم خدمات للمجتمع مقابل الضرائب التي يدفعها، و هي خدمات من المفترض أن القطاع الخاص غير مهتم بها أو غير قادر على توفيرها (مثل الدفاع و الأمن و الصحة و التعليم الأساسي...).
ضعف الإدارة العربية واضح من العلامة التي تحصل عليها هذه الدول في هذا الشأن، و التي لا تتجاوز نصف ما تحصل عليه دولة مثل سنغافورة (المرجع: ICRG International Country Risk Guide ndash; Bureaucratic Quality). و من أهم أسباب هذا الضعف النموذج السيئ لتكوين كبار مسئولي الدولة على يد ما يسمى بالمدرسة الوطنية للإدارة، والمنسوخ عن النموذج الفرنسي الفاشل، اذ يكفي التذكير هنا بتخلف فرنسا النسبي مقارنة بجيرانها في ألمانيا و بريطانيا من ناحية النمو الاقتصادي و التنافسية، حيث تأتي فرنسا في المرتبة 18 عالميا حسب ترتيب المنتدى الاقتصادي العالمي، مقارنة بالمرتبة 10 لبريطانيا و المرتبة 6 لألمانيا، كما تأتي فرنسا في المرتبة 29 في مجال سهولة مزاولة الأعمال الذي ينشره البنك الدولي، مقارنة بالمرتبة 19 لألمانيا و المرتبة 7 لبريطانيا. و يمكن القول نفس الشيء في مجال التعليم العالي و البحوث حيث لا يزيد عدد الجامعات الفرنسية المصنفة ضمن أفضل 500 جامعة في العالم 25 مؤسسة، أي اقل من نصف ما تحصل عليه ألمانيا و بريطانيا. و توجد أدلة واضحة على دور هيمنة خريجي المدرسة الوطنية للإدارة في فرنسا (Les Enarques) في هذا الترتيب السلبي لدولة تفوق مقدراتها الزراعية بكثير ما هو متوفر في ألمانيا، كما أن وجودها في وسط القارة يعطيها ميزة نسبية على بريطانيا.
من اكبر السلبيات لوجود مدرسة وطنية لتخريج كبار المسئولين في الوزارات، الدور الاقصائي الذي يلعبه هؤلاء مع سيطرتهم على مجمل مفاصل القطاع العام، و ذلك على حساب أفضل المؤهلات الوطنية المتخرجة من الكليات الوطنية و الأجنبية، بحيث تصبح هذه المؤسسة عاملا رئيسيا في هجرة الأدمغة.
و لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يكفي أن نذكر هنا بالدور الذي لعبه خريجو المدرسة الوطنية للإدارة في تونس بن علي، عندما استحوذ المدعو عبد الله القلال على المؤسسة الأمنية و وضع المدعو توفيق بكار يده على وزارة المالية و بعدها البنك المركزي، مما ساعد على سيطرة نفس المجموعة على مختلف المؤسسات العمومية الأخرى. وكان هذا عاملا مساعدا للفساد، بدليل وجود الأول حاليا في الحبس و وجود الثاني تحت التحقيق.
و ربما الأخطر من ذلك دور مجموعة الضغط الذي لعبته هذه العصابة لجهة إبقاء المؤسسات و البنوك في يد القطاع العام، بما في ذلك المؤسسات التي أثبتت التجربة العالمية إدارتها بصفة أفضل من قبل القطاع الخاص. و قد يزيد الطين بلة محاولة حماية هذه المؤسسات من الإفلاس بمعارضة المنافسة الأجنبية لها، كما حصل في القطاع المالي في كل من تونس و مصر.
إبقاء دار لقمان على حالها و إقصاء المؤهلات الوطنية، خصوصا إقصاء خريجي الجامعات الأجنبية البعيدين بحسب موقعهم السابق عن التجاذبات السياسة المحلية، هو مسالة حياة أو موت بالنسبة لخريجي المدرسة الوطنية للإدارة أينما وجدت، لذلك اقترح إلغاء هذه المؤسسة، كما تم سابقا إلغاء مؤسسات أخرى أكل عليها الدهر و شرب، مثل وزارات الإعلام و البوليس السياسي و ما شابه، و هو مقترح اعتقد شخصيا انه يمثل احد أهم الإجراءات الملحة التي يتوجب على حكام دول الربيع العربي الجدد اتخاذها على الفور.
و العقل ولي التوفيق...


[email protected]