من مفكرة سفير عربي في اليابان

ولنكمل حوارالحلقة السابقة، فلسفة الحوار والربيع العربي، مع الاخ الشاب أحمد، فقد نلاحظ بأن الشباب العربي متحير بين ثقافتين متضادتين، ثقافة الغربنة، التي تبهره بقيم الغرب اللبرالية وحداثتها، وثقافة quot;المعارضة المتطرفةquot; التي تشغله بتطرف أفكارها، وبعنف أساليبها، وبانتقادها المستمر للمجتمع، والاستهانة بتحدياته، وتصغير إنجازاته، وبعدم عرضها حلول برغماتية واقعية لمعضلاته. فيبدو بأن هناك اضطراب توازن بين الحداثة والثقافة، بين التعامل مع التحديات الحياتية، في البيت، والمدرسة، والعمل، والمجتمع، وبين فهم ثقافة الأمة، وقيمها، وتاريخها. ويزيد الطين بلة، التشوش الفكري الذي يعيشه الشاب، لعدم تأصل علوم الاجتماع في مجتمعاتنا، وتركها لأحاديث الخطباء، وللإرهاصات السياسية والطائفية، لتنتهي بتصورات متناقضة، وما أخطر أن يتعرض العقل البشري، في مرحلة نشوءه وارتقائه، لأفكار انفعالية مثيرة، عن تاريخه ودينه وحضارة أمته وانجازات بلاده.
وفي عصر العولمة، وأهمية الشراكة الإقليمية فيه، يعيش الشاب، أيضا، تناقضات فهمه لوطنه العربي، منذ عصر الفتوحات الإسلامية، وحتى حضارة الأندلس، وإلى نهاية الإمبراطورية العثمانية في عام 1922، قبل أن يفتته الاستعمار. والجدير بالذكر بأن إرهاصات التاريخ البشري لم تكن مشكلة العرب وحدهم، بل تعرضت لها جميع شعوب الشرق والغرب، وفي مختلف مراحل التاريخ البشري، ومع ذلك، لم تنشغل الشعوب بالنحيب على الماضي، ولم تفقد الثقة بأوطانها، ولم تنفعل بحب الانتقام والكراهية، ولا بتدمير اقتصاد بلادها، ولا بتفجير أجسامها لقتل مواطنيها، بل درست تاريخها بصدق، وتجنبت أخطائه، وبنت على إنجازاته، وتعاملت مع تحدياته بإيجابية متناغمة، بالعلم واحترام الوقت والعمل المبدع، وبثقة نفس متميزة، وبإخلاص للوطن، وبالالتزام بأنظمته ودستوره، وبالفخر لحضارة بلادها وانجازاته، وباحترام ما عانته مجتمعاتها من تحديات متشابكة، وخير مثل لذلك اليوم صعود الصين والهند والبرازيل، بعد ما عانته شعوبها من إرهاصات استعمارية معقدة خلال القرنين الماضيين. والسؤال للأخ أحمد: هل ممكن أن تتقدم أمة لا يتقن شبابها لغته، ولا يفهم تاريخه، ولا يستوعب قيمه، ولا يدرك تحدياته المعقدة، ولا يتشرف بما حققته من انجازات، ولا يفخر بحضاراته؟ وهل ترتبط هذه المعضلة بظروف التربية والإرث العقلي والاستعمار الذهني، وتشوش فهم العولمة؟ ألم يتعامل العالم العربي مع الكثير من تحدياته المعقدة بنجاح، فحقق إنجازات مشرفة؟
لقد أدى ظهور الإسلام في جزيرة العرب، وامتداده بالفتوحات الإسلامية، لانتشار اللغة العربية وثقافتها، كما امتزجت العقلية العربية بعقليات وحضارات مختلفة، ليستمر هذا الامتزاج في فترة حضارة الأندلس والإمبراطورية العثمانية، ومرحلة الاستعمار، وعصر الاستقلال، وفي ظروف الحرب الباردة، ولتنتهي لبيئة العولمة الجديدة. ويعتقد الدكتور محمد عابد الجابري، بأن حل معضلات المجتمعات العربية، تحتاج لتحولها من بيئة القبيلة إلى واقع أللاقبيلة، ومن بيئة نظام الطائفة، إلى واقع النظام المدني السياسي الاجتماعي، ومن فكر الغنيمة إلى اقتصاد إنتاجي، ومن عقيدة مذهبية متعصبة إلى فكر حر ديمقراطي، يحلل الاختلاف، ويسمح التعامل بعقل اجتهادي نقدي. ويجد العقل العربي مرجعيته، في الخيال الاجتماعي، بدل النظام المعرفي، وهو في حاجة لنظام رأسمالي ديمقراطي، وبقاعدة اقتصادية أساسها الصناعة، وبنية فوقية قوامها الدولة بمؤسساتها، والقوانين المرتبطة بها. ولا تعرف الكثير من مجتمعاتنا العربية التمايز بين البنيتين، والغالب فيها تداخل عناصرها، بصورة تجعل المجتمع برمته عبارة عن بنية كلية واحدة. فالقبيلة العصرية، طريقة في الحكم والسلوك السياسي والاجتماعي، وتعتمد على ذوي القربى، مدينة أو طائفة أو حزب، بدل الاعتماد على ذوي الخبرة والمقدرة، ممن يتمتعون بثقة الناس، أو من خلال تمثيل سياسي نتاج انتخابات ديمقراطية متزنة حرة. والغنيمة آلية الإقتصاد، والتي تعتمد على فكرة الريع والخراج، وجباية غنائم الحرب والغزو وجزية ضرائب غير المسلمين، وليس على العلاقات الإنتاجية. والتمذهب، وليس التدين، هو الذي يحرك الجماعة، ليس على أسس معرفية، بل على رموز تؤسس الإيمان والاعتقاد، بمعزل عن الاستدلال واتخاذ القرار، بل ويضحي الشاب بحياته من اجل مذهبه وطائفته، ولكنه لا يستشهد من اجل إقامة الدليل على صحة قضية معرفية.
كما يجب علينا الأخ أحمد أن نتجنب الخلط بين العلم والأسطورة والدين، وبين علماء الدين والآخرة وعلماء العلوم الطبيعية والدنيوية، وإلا سيختلط الحابل بالنابل، ليفتي رجل التكنولوجيا والاقتصاد في الصلاة والصوم، بينما يفتي رجل الدين في أمور السياسة والعلوم الفيزيائية والبيولوجية والطبية. وقد بحثت الكاتبة البريطانية، كارن ارمسترونج، في كتابها، الأسطورة، عن العلاقة بين الأساطير والأديان وضرورة خلق توازن فهمهما، لتطوير التجربة الديمقراطية مع المحافظة على القيم الإنسانية الروحية الدينية، والوقاية من الإستفادة من الدين للعب السياسية الطائفية المقيتة. وتوضح الكاتبة بشكل جميل بأنه ومنذ بداء التاريخ، كان الإنسان ملهما بخلق الأسطورة، فمن خلالها يرضي غرائزه ويحقق أحلامه. وقد واكب تصنيف التاريخ البشري في خلق الأسطورة بثلاثة مراحل. تمثلت المرحلة الأولى بتداول الأساطير لأسرار الكون وأحلام الإنسان، ومع تقدم الحضارة البشرية العمرانية دخلت مرحلة العقائد الدينية، ومع تطور المجتمع المدني وبداء الاكتشافات العلمية دخل الإنسان مرحلة العلوم المادية والتخيلات العلمية. وقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة بأن حياة الدنيا ليست إلا بداية لحياة أخرى وقد أكد رجال الآثار هذه الحقيقة، بكشف ما تحوي قبور الأقدمين من كنوز جمعوها في قبورهم لأخذها لحياة الآخرة. ويعتقد الذهن البشري بأن هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيع المخ المادي أن يفسرها ويقتنع ماديا بوجودها. لذلك تطور التخيل في العقل البشري وبرزت الأساطير وتطورت منها مفاهيم الأديان المختلفة.
و تعتبر الأساطير في عالمنا المادي اليوم خرافات غير معقولة، مع أن مخيلة الأساطير هي التي مكنت الإنسان أن يحلم بالمستقبل، ويكتشف علوم جديدة، ويبدع باختراعات حديثة. فمخيلة العلماء هي التي حملتنا إلى عالم الفضاء الخارجي، فمشينا على القمر، وزرعنا المريخ، وسحبنا الطاقة الكهربائية من على سطح الشمس. فالأسطورة مع العلوم المادية توسع مدارك ذهن الإنسان، وتحلقه في أحلام مستقبلية عجيبة. وتساعد الإنسان لان يعيش الواقع الحياتي باعماقة، ويحلم بتغيره وتطويره. وقد مزجت الأساطير قديما بين الإنسان والحيوان والطبيعة بتناغم جميل، وتعرضت للقوانين الأرضية والقيم الإلآهية بشكل متوازن. ولم يوجد في البداية شرخا بين عالم الآلهة والعالم البشري. ولم ينفصل ووجود الإلهة عن قوة الرياح وحيوية الأنهار والبحار، ولا عن العواطف الإنسانية في الحب والكراهية والانتقام . وقد خلق الإنسان الأساطير لتساعده على التعامل مع معضلات الحياة والطبيعة بشكل حالم وسلس. كما ساعد البشر أن يعرفوا موقعهم في هذه الحياة، ويتساءلون من أين أتوا، وكيف بدأت الحياة، وما سرها، وأين هم ذاهبون. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان