من يتابع المقالات القيمة للأستاذين شاكر النابلسي ونجم عبدالكريم في quot; إيلاف quot; عن المثقف ومعني الثقافة ثم تعليقات القراء الكرام، لابد وأن يتحمس للمشاركة في هذا (الجدل الراقي) والقلق الخصب الذي يشعر به الجميع في هذا المنعطف الخطير من تاريخنا. لن أتناول الأفكار المهمة التي طرحها النابلسي أو عبدالكريم في هذا المقال، فقط.. سأعرض لكتاب تناول quot; في العمق quot; وبمنظار أوسع (الثقافة وتطور الإنسان في المائة ألف عام الأخيرة)، وربما نكتشف - من خلال العرض المقتضب - معاني جديدة للمثقف وأدواره الحيوية سواء كان فردا أو جماعة.
عنوان الكتاب: quot; الجينات والشعوب واللغات quot; تأليف: لويجي لوقا كافللي ndash; سفورزا، ترجمه إلي العربية أحمد مستجير، صدر عن المجلس الأعلي للثقافة في القاهرة عام 2000، ويركز علي: علم الآثار القديمة (الأركيولوجيا) وعلم الوراثة وعلم اللغة، حيث تقدم هذه العلوم الثلاثة الكثير من البيانات والتبصرات الجديدة، وخلفها يوجد تاريخ واحد.
الثقافة والبيولوجيا
اقترح علماء الانثروبولوجيا المئات من تعريفات الثقافة، معظمها نظري لا يتضمن التكنولوجيا. أما quot; سفورزا quot; فهو يقدم أبسط وأعرض تعريف ممكن وهو: الثقافة هي مجموعة من العادات والتكنولوجيات التي لعبت وتلعب دورا رئيسيا في تطور سلوكنا. لكنا لابد أن نضيف إلي هذا التعريف ndash; كما يقول - أن الثقافة هي ما نتعلمه من الآخرين وما نضيفه بمجهودنا إليها، عادة ما يكون اسهامات ابداعية محدودة تأتي عن التعلم المنفرد المستقل، وتمرر هذه أحيانا إلي الآخرين، ومن ثم تصبح جزءا من الثقافة إذ تتاح للأجيال التالية.
quot; الثقافة هي الدرب الأوحد الذي يسمح للمعارف عن العالم أن تتراكم عبر الأجيال، هي تتجاوز ما يفرضه قصر حياة الفرد منا في تجميع المعلومات quot; (ص- 187). ويشبه quot; الجينوم البشري quot; الثقافة، من حيث أن كلا منهما يجمع معلومات مفيدة من جيل إلي جيل.
quot; اللغة quot; ابداع يتضمن كلا من البيولوجيا والثقافة، فالأطفال يولدون وهم يحملون القابلية والقدرة علي تعلم اللغة. فاللغة ذاتها بالفعل ابداع ثقافي، لكنها تتطلب أساسا تشريحيا وعصبيا دقيقا. ان القدرة علي التعلم هي واحدة من أهم الخصائص الأساسية للحياة حتي في الكائنات الأولية. أما الثقافة، أي القدرة علي التعلم من تجارب الآخرين فهي ظاهرة خاصة تعتمد علي التواصل. وسرعة التواصل مع الآخرين ودقته، بل وحتي قدرتنا علي تذكر ما نتعلمه، كلها أمور تحكم كفاءة الثقافة.
لكن سفورزا يري: أن وجود الثقافة في ذاته لايكفي لكي تكون مفيدة من الوجهة البيولوجية لكن هناك أمثلة عديدة يمكن أن تبين قيمتها الكامنة للتكيف البيولوجي. مثال ذلك: ان حاستي التذوق والشم وحدهما لا تكفيان لمساعدتنا في اختيار الطعام الآمن الذي نأكله، لابد أن نتعلم من آخرين ان نعرف أي النباتات سام ؟ وأي الحيوانات خطر؟
العنصرية والتعصب
ثمة عوامل عديدة تغذي مشاعر العنصرية، حسب سفورزا، من أهمها رغبة الفرد في ان يسقط تعاسته علي غيره. quot; ان اغتراب الذات في المجتمعات المعاصرة كثيرا ما يكون سببا خطيرا جدا من أسباب التكدر والقلق، وهي تتفاقم مع العداوات التي تنشأ عن الهجرات الجماعية من الدول الفقيرة quot;. (ص ndash; 19)
ربما كان quot; كلود ليفي ndash; شتراوس quot; هو من قدم أبرع تعريف للعنصرية: انها الاعتقاد بأن سلالة بشرية معينة (تكون عادة ndash; وليس دائما ndash; هي سلالة الفرد نفسه)، هي سلالة فائقة بيولوجيا ndash; ميزها عن غيرها ما حظيت به من جينات وكروموزومات ودنا متفوق. (ان الطبيعة البشرية لا ترحب بالتغيير، حتي اذا كنا ساخطين علي أوضاعنا. وهذا الاخلاص للعادة والخوف من الاصلاح يشجع المحافظة علي القديم، مما قد يؤدي إلي العنصرية).
الثقافة ومستقبل البشرية
لا يحمل المستقبل من المنظور الوراثي الكثير من الإثارة ndash; فالأغلب أن نوعنا لن يتطور أكثر، هو لن يتطور علي أيه حال بالسرعة التي تطور بها حتي الآن. لقد تسبب التطور الثقافي في ابطاء التطور البيولوجي بشكل واضح. كان الانتخاب الطبيعي ndash; إذ يعمل علي الخصب ومعدل الموت ndash; هو أكبر العوامل التطورية في بيولوجيا الإنسان. لكن التقدم في الطب يكاد أن يقضي علي أمراض الموت قبل الأنجاب، حتي ليصبح من الضروري أن تقلص النمو الديموغرافي، وبشدة اذا كان لنا ان نمنع الانفجار السكاني. فإذا ما أمكن أن يمنع الموت قبل الانجاب، وان يتزوج كل فرد، وان تنجب كل عائلة طفلين فلن يكون هناك انتخاب طبيعي. (ص ndash; 218).
غير أن هناك تغيرا وراثيا يحدث الآن (العولمة) عن طريق الهجرة التي تزيد من مزج العشائر. فإذا استمرت هذه العملية، كما هو متوقع، فستتلاشي الفروق الوراثية بين الجماعات البشرية، وتتزايد الفروق بين أفراد نفس العشيرة الواحدة، لن يتبقي من أسباب العنصرية إلا القليل وهذا أمر طيب. (219)
أضف إلي ذلك ان الجماعات العرقية المختلفة في هذا الزمن تتباين في معدل التكاثر، فعشائر الكثير من الدول النامية تنفجر، وعلي هذا فسيتناقص التكرار النسبي للشقر والبيض كما يؤكد سفورزا: ان معدل التغير الثقافي سيستمر في التزايد في المستقبل، وتشكل الاتصالات الأساس في التغير الثقافي، ونحن نعيش حاليا في خضم ثورة الاتصالات.. لقد عمل الكمبيوتر إلي الآن كإمتداد لدماغنا ورفع الكثير من قدرتنا، ويقوم الذكاء الإصطناعي حاليا بمد مجالات تطبيقات الكمبيوتر الي اتجاهات جديدة... إلي أين ستأخذنا؟
[email protected]
التعليقات