الكون الكلي 11


يجري تداول نكتة مشهورة بين أوساط العلماء تقول، أن عالم الفيزياء الكوانتية أو الكمومية physique quantique فولفغانغ بولي Wolfgang Pauli، الذي كان مشهورا بدقته وصرامته التدقيقية في الحسابات والمعدلات الرياضياتية، عندما توفي استقبله الله بنفسه تكريما وتقديرا له، وقال له أنت يا بول عالم كبير ومحترم وأريد أن أكافئك على ما قدمته فقل لي مالذي يسعدك معرفته؟ رد بولي على الفور: أريد أن أعرف سر الكون والمعادلة القصوى والنهائية أو الأخيرة eacute;quation ultime تلك التي توحد كل القوى في الطبيعة والتي بحثت عنها طيلة حياتي ولم أعثر عليها. فأجابه الله : هذا أمر بسيط وقاده نحو سبورة أو لوحة سوداء وخط عليها الله ثلاث معادلات وقال لبولي هذه هي المعادلات النهائية للكون. تأمل فيها بولي وحك رأسه وقال جملة واحدة : غبية stupide. لهذه المزحة دلالة عميقة إذ أنها تنوه أنه حتى الله نفسه غير قادر على صياغة المعادلة التوحيدية النهائية التي تسيير الكون. كما تساءل أحد الفلاسفة يوما هل بوسع الله خلق حجر ثقيل جداً لن يكون هو نفسه قادراً على حمله، وهذه مفارقة بشأن القدرة الإلهية فهل هو قادر على خلق مثل هذا الحجر ولو خلقه فكيف سيكون عاجزاً عن حمله؟ ولو قلبنا الأدوار يمكننا أن نتساءل ماذا يفكر الله بالتقدم الذي حققه علم الكون أو الكوزمولوجيا وبالمعادلات التي سطرها العلماء والمنظرون الفيزيائيون وخبرا الفيزياء النظرية بهذا الخصوص؟ هل سيسخر منهم أم سيعطف عليهم أم سينزعج منهم لتجاوزهم الحدود المسموح بها؟ وهل سيوحي لهم ببعض النصائح والتوجيهات التي من شأنها أن تساعدهم للخروج من مأزقهم؟
يمكن القول أن محاولات التوحيد موجودة في قلب المساعي العلمية الحثيثة منذ نشأت الفيزياء الحديثة، وكل الأسماء الباهرة والشهيرة في الوسط العلمي تعاطت، بطريقة أو بأخرى، مع مسألة توحيد القوى الجوهرية الأربعة في الكون المرئي، والسعي لإيجاد النظرية الجامعة والموحدة الشاملة، أي نظرية كل شيء. فغاليلو غاليله Galileacute;e وحد عالمي ما فوق وما تحت القمر ونيوتن Newton وصف بنظرية واحدة الحركات الأرضية والسماوية، وماكسويل Maxwell وحد الكهرباء والمغناطيسية بصيغة مشتركة واحدة، وآينشتين Einstein جمع الزمان والمكان في وحدة واحدة سماها الزمكان، وبروجلي Broglie مد الجسر بين الموجة والجسيم الأمر الذي استندت عليه الفيزياء الكمومية أو الكوانتية، وعبد السلام وستيفن وينبيرغ وشيلدون غلاشو Abdus salam, steven Weinberg, Sheldon Glashow وضعوا أسس النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات بتوحيدهم التفاعلات الكهرومغناطيسية بالقوى النووية الشديدة والضعيفة. ويحاول العلماء اليوم متابعة تلك الجهود والمساعي والوصول بها إلى أبعد حد ممكن علمياً وتقنياً، لأنها تعتبر واعدة وقد تكون مثمرة في مستقبل قريب رغم الصعوبات، فكان العلماء يسيرون في دروب وعرة ومجهولة من أجل سبر أغوار وكشف أسرار الطبيعة بغية قهر العقبات وتذليلها لا سيما تلك التي تعيقهم عن تحقيق هذا الهدف. فقد أثروا وفككوا فكرة لدى الإنسان حول وجود روابط ممكنة بين الزمان والمكان، وبين الجسيمات والقوى، عبر غابة من المعادلات الكبالية cabalistique أو القبلانية الخفية الميتافيزيقية، بأمل معانقة كلية وشمولية الواقع بغية صياغة جديدة علمية لكلية وشمولية العالم بقوانينه ومحتوياته الأنطولوجية الكاملة من خلال لعبة المعادلات الرياضياتية المعقدة والمتطورة جداً، لكنهم لم يبلغوا هذه الغاية بعد، بيد أن أفقهم الذي يسعون له ويهدفون بلوغه قد مهد له منذ عقود طويلة وأعطوه إسماً هو : quot; نظرية كل شيءquot; theacute;orie du tout. فهو حلم يداعب أذهانهم، وفي نفس الوقت طموح معقول وممكن على المستوى النظري على الأقل. فهل يمكن لنظرية كل شيء، لو تحققت فعلاً، أن تجيب على كل شيء؟ هناك عقبات جوهرية صعبة يتعين عليهم التغلب عليها أولا مثل: حل لغز المادة السوداء matiegrave;re noire، وكذلك تشخيص ومعرفة طبيعة وماهية الطاقة الداكنة أو المعتمةeacute;nergie sombre الخفية والغامضة، ومن ثم تزويج الفيزياء الكمومية أو الكوانتية مع النسبية العامة، وهذا وحده يعطي فكرة واضحة عن المسافة الزمنية التي يتوجب على العلماء أن يقطعوها قبل الأمل بإمكانية القول أن الكوزمولوجيا قد أنهت مهمتها.
إلى جانب ذلك يوجد قيد لا يقل أهمية وصرامة وهو ذو طبيعة معرفية. فلكي يتم الإعلان عن هذه النظرية عن كل شيء، وأنها نظرية علمية، يتوجب عليها قبل كل شيء أن تكون واضحة ومفهومة وتقود إلى توقعات وتكهنات أو تنبؤات حاسمة وقاطعة لا تقبل الدحض أو الطعن أو الشك بصلاحيتها وبالإمكان التحقق من صحتها بواسطة الحسابات والقياسات والتجارب والمشاهدات بحيث تكون نتائجها متطابقة وثابتة وإلا فسوف تفقد قيمتها العلمية وتخسر قيمتها وتسقط في الاختبار. هذا لا يعني أن العلماء سلبيين قبل أن يبدأوا بالفعل في صياغتها. ولكن لو افترضنا أننا عثرنا حقاً على هذه النظرية المنشودة وتأكدنا فعلاً أنها نظرية كل شيء، الوحيدة والفريدة من نوعها، من بين كافة النظريات الأخرى التي تنافسها، ولو افترضنا أن كافة تطبيقاتها كانت مقبولة ومفهومة وواضحة وإنها سترسخ أقدامها في الوسط العلمي في أقصر فترة زمنية ممكنة وإنها ستعيش عمراً طويلاً يكفي لتشرح لنا كل شيء، فهل ستكون حقاً قادرة أن تحيط بكل شيء؟ هذا ما يعتقده العلم الفيزيائي ستيفن هوكينغ Stephen Hawking الذي يبدو متفائلاً بهذا الشأن كما أعلن ذلك في كتابه التبسيطي تاريخ موجز للزمن المكتوب لعامة القراء حيث قال: لو توصلنا إلى اكتشاف النظرية الموحدة فإنها ستكون مع الوقت مفهومة من قبل الجميع في خطوطها العريضة وفي مبادئها العامة ن وليس فقط من قبل حفنة من المتخصصين والعلماء، فبوسع الفلاسفة والأشخاص العاديين المشاركة في النقاش حول سبب وجودنا وغاية وجود كوننا المرئي القابل للرصد. ولو وجدنا الجواب القاطع فسيكون ذلك بمثابة انتصار للعقل البشري. ثم أضاف : لو تحقق ذلك فيكون بوسعنا معرفة ما يفكر به الله. quot; كما لو أن من البديهي أن الله يفكر. ويبدو ان ستيفن هوكينغ غير رأيه هذا في كتابه الأخير المعنون التصميم الكبير وقال أن الكون ليس بحاجة لخالق لكي يظهر إلى الوجود. يتسم هذا الموضوع بحساسية بالغة بالنسبة لكثير من الناس خاصة المتدينين منهم. لذلك أحدث ستيفن هوكينغ ضجة كبيرة عند صدور كتابه التصميم الكبير the grand Design- Le grand dessein أو هل هناك مهندس كبير للكون؟ بعد أن غير موقفه من موضوعة الخلق الرباني المباشر للكون المرئي واستبدله بما معناه أن الكون المرئي ليس بحاجة لخالق من خارجه وهو يكتفي بقوانينه الجوهرية وبالذات قانون الثقالة أو الجاذبية la loi de la graviteacute; وبفضل هذا القانون امكن للكون المرئي أن يخلق نفسه بنفسه انطلاقاً من لا شيء ولم يقل من العدم agrave; partir de rien، فالخلق الذاتي العفوي la creacute;ation spontaneacute;e هو السبب في وجود شيء ما بدلاً من لا شيء، وبالتالي وجود الكون المرئي ووجودنا نحن فيه. هل يقصد ستيفن هوكينغ أن هذا اللاشيء كان يحتوي على قانون الثقالة أو الجاذبية قبل انبثاق الكون المرئي وإن هذه القوة هي التي أوجدت الكون المرئي وأظهرته للوجود المادي؟ اي أن قانون الثقالة أو الجاذبية حسب ستيفن هوكينغ كان موجوداً في اللاشيء حينما لم يكن هناك أي شكل من أشكال المادة موجوداً، في حين أننا نعرف بأن الجاذبية أو الثقالة تحدث وتقوم بفعلها أو وظيفتها بين الأشياء والأجسام المادية مهما صغرت أو كبرت، أو قد تكون الجاذبية حسب هوكينغ، سمة من سمات اللاشيء، عندما يتعرض تناظره للخرق؟. فمالذي يمنع ستيفن هوكبنغ من القول أن الثقالة أو الجاذبية قد تكون هي الله أو تقوم بوظيفة الله؟
في معرض حديثه عن نظرية الأوتار الفائقة أشار ستيفن هوكينغ في كتابه اخير التصميم الكبير إلى أن هذه النظرية توقعت أو تنبأت بوجود الثقالة أو الجاذبية في كل مكان في كوننا المرئي وخارجه في الأكوان الأخرى علما بأن نظرية الأوتار الفائقة لم تعتبر الثقالة أو الجاذبية نقطة انطلاق. لذلك من المثير للدهشة أن تبدو الثقالة أو الجاذبية نقطة الانطلاق لهذا العالم باعتبارها الكينونة الأولى التي تسبق الكون المرئي المادي، بل وتقوم هي بخلقه على حد اعتقاد ستيفن هوكينغ، في حين أن مكانة ودور وموقع الجاذبية أو الثقالة في النظرية الي يستند عليها أي الأوتار الفائقة، بل وحتى النظرية أم يبدو ثانوياً وأهمية الثقالة فيهما ثانوية بالمقارنة بباقي القوى الكونية الجوهرية الثلاثة الأخرى. بمعنى آخر أنها مشتقة من أو ناجمة عن مباديء أكثر جوهرية منها وهذه مفارقة هامة. فالاعتقاد بوجود أو عدم وجود الله لا يمكن إثباته أو دحضه علمياً في الوقت الحاضر ولو أردنا أن نقوم بذلك فسيتعين علينا أولاً وقبل كل شيء، أن نعرف بالضبط وبدقة متناهية من هو هذا الإله الذي نريد إثبات وجوده أو عدم وجوده علمياً وما هي صفاته وهل يمكن وصفه؟ وكيف ندرس كينونة نقول عنها أنها لا وجود لها في واقع حقيقي ملموس؟ فكيف نعرف الله إن لم يكن موجوداً؟. لو قال الله في نصوصه المقدسة مثلاً أنه مقتنع بعدم وجود الذرة أو أنها لا يمكن أن تكون موجودة في الواقع، ثم يأتي العلم ويكتشف وجود الذرة ويثبت ذلك بالتجارب المختبرية والاختبارات العلمية فإن ذلك سوف ينسف وجود هذا الإله والحال إن الله لم يعط فكرة محددة ودقيقة عن هذا الموضوع أو غيره وبالتالي فليس من شأن أي اكتشاف علمي أن يزعزع أي اعتقاد بوجود الله ولا بعكسه ولا يؤثر مثل هذا المسعى العلمي على حقيقة وجوده أو عدم وجوده. فمن غير المجدي، بل ومدعاة للوهم، استخلاص أي معنى حقيقي للعالم من خلال لعبة المعادلات الرياضياتية وحدها. ولكن يبدو أنه شيء أقوى منا ونابع من حبنا للكشف وتوضيح الغموض والفضول المعرفي لأننا بطبيعتنا ودون أن نعلم نطبق مبدأ إمكانية الحدوث واحتمالية الوجود بعد عدم أو جواز حدوث الشيء من لا شيء وبأننا نبحث دائماً عن معنى ما أو عن مشروع أو عن تصميم مسبق. وما أن نقتنع بأننا توصلنا إلى مثل هذا المعنى نتسرع ونعلن عن ذلك من خلال هذه النظرية العلمية أو تلك التي تتلائم مع ذوقنا سواء أثبتنا صلاحيتها علمياً أم لا، وهذا هو الحال مع ستيفن هوكينغ ونظرية كل شيءtheacute;orie du tout , فحتى لو أطلعتنا هذه النظرية على الطريقة التي ظهر بها الكون المرئي للوجود فإنها ستكون بالتأكيد عاجزة عن أن تبين لنا لماذا ظهر الكون بهذه الطريقة، ولن تكون قادرة عن كشف السبب الذي أدى إلى وقوع مثل هذا الحدث. وهكذا يتوجب علينا العثور على عدد من السبل للإجابة على بعضالأسئلة مثل هل هناك سبب أو غاية أو معنى أوهدف لوجود الكون المرئي وما هي ضرورة مثل هذا الوجود للكون المرئي ولماذا يجب أن يأخذ الكون المرئي هذا الشكل أو الهيكيلية وليس هيئة مغايرة وما هو السبب وراء حقيقة وجود عالم مادي ندرسه الآن إلى جانب عدد لا متناهي من العوالم الخفية التي يستحيل علينا دراستها وكشفها وإثبات وجودها أو عدم وجودها؟.
يتبع