السقوط الدرامي للنظام العراقي السابق في ربيع عام 2003 الذي تم على أيدي القوات الأميركية ليس مجرد حدث فريد من نوعه في العالم العربي فقط بل أنه وضمن دواعي الأمن الإقليمي و الدولي قد جاء ليغطي على فظائع مرحلة تاريخية حساسة عاشها العراق و العالم العربي و حيث أخفيت بسبب فوضى الحرب و الإحتلال و حالة ( الفرهود ) أي النهب الوطني الشامل حقائق مريعة و توارت وثائق مهمة للغاية عن أحداث داخلية عراقية و على صعيد الصراع الداخلي للنظام البائد ذاته و المؤامرات التي كانت تحاك بسرية مطلقة و تركت نتائجها فيما بعد آثارا مهمة على مستوى الأمن الإقليمي!!

فقد هرب أو توارى العديد من قادة النظام السايق و قياداته الحزبية العاملة، و قبض على البعض الآخر ووقعوا تحت الرعاية الأميركية المباشرة و بالشكل الذي جعل من تدوين أحداث التاريخ العراقي القريب مسألة صعبة و معقدة إن لم تكن مستحيلة، و قد دابت مؤخرا بعض الفضائيات العراقية تحديدا على تنشيط الذاكرة التاريخية و أستدعت بعض البقايا من قادة النظام السابق أو القيادات البعثية السابقة التي لعبت دورا في صياغة أحداث التاريخ العراقي أو كانت على الأقل شاهدة عليه، وقد تبين من خلال متابعة تلك الذكريات بأن أغلبية القادة العراقيين السابقين ليسوا سوى مجرد ( شاهد ما شافش حاجة )!!، و قد أفصح وزير النفط العراقي الأسبق و عضو القيادة القطرية للبعث تايه عبد الكريم العاني عن تلك الحقيقة بوضوح قائلا من أنه كان ممنوعا على القياديين البعثيين مناقشة ملفين وهما الجيش أولا و أجهزة الأمن ثانيا!!

فماذا بقي إذن من شؤون الدولة لتناقشها القيادات الحزبية الأخرى؟ لذلك كانت جميع ملفات و حقائق المؤامرات التي أعلنها نظام البكر/ صدام حبيسة الأدراج السرية و لا يعلم أحد من العراقيين بحقيقتها سوى صدام حسين و الحلقة الضيقة المحيطة به، و لعل أشهر المؤامرات التي ظلت ملفاتها و حقائقها حائرة و تائهة في التاريخ العراقي المعاصر هي مؤامرة 30 حزيران/ يونيو 1973 المعروفة بمؤامرة مدير الأمن العام اللواء ناظم كزار و الذي كان في البداية و النهاية صنيعة شخص صدام حسين فقط لا غير، فناظم الرهيب الذي كان الشيوعيون العراقيون يعرفون سطوته و ساديته كان مجرد شقي من شقاوات و سرسرية حزب البعث و في الخط المعروف بالخط الصدامي أي الخط المسؤول عن المعارك و الإغتيالات و التصفيات للقوى المنافسة في الشارع و تم ترشيحه لمنصبه ألأمني بناءا على مسؤولية صدام حسين ذاته أيام كان نائبا لما كان يسمى مجلس قيادة الثورة و إستنادا إلى ماضيه الإرهابي و الترويعي في إنقلاب عام 1963 و دوره في تعذيب و قتل الشيوعيين العراقيين في مقرات التحقيق و التعذيب وهو نفس الدور الذي إضطلع به و تخصص فيما بعد في المعتقل التعذيبي الشهير ( قصر النهاية ) إعتبارا من عام 1968 و حيث بدأت العودة البعثية الجديدة للسلطة وقتذاك بسلخ جلود القوميين و الناصريين و البعثيين اليساريين جماعة دمشق مضافا لهم الإسلاميين من شيعة وسنة إضافة للشيوعيين وهي الحفلات التعذيبية الليلية الساهرة التي كان يساهم فيها بعض أعضاء القيادة الحزبية العليا من أمثال صدام وطه الجزراوي و برزان التكريتي و عبد الكريم الشيخلي و آخرون، و كان ناظم كزار يعتبر الدرع الواقي لحماية سلطة حزب البعث بعد أن قرر البعثيون عدم ترك السلطة تضيع من أيديهم و رفعوا شعار معروف ( جئنا لنبقى ) و ذللوا كل الصعاب و دمروا كل مخالفيهم بشتى السبل الدموية العنيفة، و لكن بقي التنافس و الصراع الداخلي واحدا من اهم نقاط ضعف البعثيين ليس في العراق فقط بل في الشام ايضا، فصراع الذئاب مستمر و دموي لا يعرف الهدنة، وفي صيف عام 1973 فوجيء الرأي العام العراقي بأنباء محاولة إنقلابية قيل أن مدير الأمن العامة ناظم كزار يقف خلفها بعد أن إختطف كل من وزيري الداخلية سعدون غيدان و الدفاع الفريق حماد شهاب التكريتي خلال دعوتهم لمعمل تعذيبي جديد تابع للأمن العامة فيما دبرت محاولة لإغتيال الرئيس السابق أحمد حسن البكر في مطار بغداد خلال عودته من زيارة رسمية لبلغاريا و كانت تلك الخطة مبرمجة وفقا للسيناريو ( الأوفقيري ) في المغرب نسبة لوزير الدفاع و الداخلية المغربي السابق الجنرال محمد أوفقير الذي دبرفي صيف 1972 محاولة لإغتيال الملك الحسن الثاني بتفجير طائرته في الجو فلما فشلت تلك المحاولة حاول قتله في مطار الرباط أيضا و هي التي فشلت أيضا !!

و كان سيناريو إغتيال الرئيس البكر في المطار يبدو شبه مضمون و لكن تأخير حصل في جدول عودة البكرأربك المتآمرين الذين إنسحبوا من محيط المطار لتكتشف المحاولة و يعدم كبار قادة الأمن العراقي و يهدم قصر النهاية و العجيب أنه لم تجر أبدا مساءلة حزبية أو سياسية حول ما حصل و كيف حصل؟ وحقيقة الرواي الرسمية للأحداث، كما لم تجر ابدا محاكمات علنية بل شكلت محكمة خاصة ترأسها عزة الدوري حكمت بالإعدام و نفذ على الفور في حديقة القصر الجمهوري و لكن الهزة الكبرى لحزب البعث كانت في إتهام القيادي البعثي الكبير المرحوم عبد الخالق السامرائي بالتورط في المؤامرة دون أدلة واضحة و معلومة و الحكم عليه بالإعدام ثم تخفيف الحكم بسبب تدخل مؤسس الحزب ميشيل عفلق و حيث بقي السامرائي معتقلا في سجن المخابرات العامة لستة أعوام أخرى قبل أن ينفذ فيه صدام حسين الإعدام بعد إستيلائه على السلطة في تموز/يوليو 1979 و مجزرة القيادتين القومية و القطرية و التي أنهت و أجهزت على حكم حزب البعث بالكامل و قبل سقوطه النهائي بربع قرن تقريبا!!

بعد أن تحول لإقطاعية عائلية و عشائرية خاصة بالرئيس الجديد وقتها و أعوانه وحيث تحولت مسيرة الوضع في العراق لتتخذ أشكالا كارثية من الحروب و الغزوات إنتهت بالإحتلال الأميركي عام 2003 و التي أخرجت نظام البعث العراقي من دائرة التاريخ، إرهاب دولة البعث العراقية لم يرحم البعثيين أنفسهم الذين تحولوا لجثث أو لطرائد في ظل خنوع تام و مطلق و عبادة للفرد الصنم و رغم المصائب التاريخية الثقيلة لم يزل الإرشيف الرسمي للأحداث في حالة غياب تام و مفجع وهو ما يعتبر إلغاء تام لذاكرة الشعب و الأمة.

داود البصري

[email protected]