المقولة الشعبيّة الإسرائيليّة تقول إنّ اليسار الإسرائيلي هو الّذي يصنع الحروب بينما اليمين الإسرائيلي هو الّذي يصنع السّلام. تستند هذه المقولة إلى فرز جوهريّ بين تيّارين عميقين يعتملان في الذهنيّة الإسرائيليّة، الرسميّة منها والشعبيّة. والنّقطة المفصليّة الّتي تفرز هذين التّيّارين هي النّقطة الفاصلة بين ما تطلق عليه الأدبيّات الإسرائيليّة quot;حرب الخيارquot; من جهة، وquot;حرب اللاّ-خيارquot; من الجهة الأخرى.
لقد طفت هذه المقولات على السّطح عقب اجتياح الجيش الإسرائيلي بإمرة حكومة مناحم بيغن وأريئيل شارون للأراضي اللّبنانيّة والوصول إلى بيروت في بداية الثمانينات من القرن المنصرم. لقد تمّت تلك الحرب بقيادة اليمين الإسرائيلي المتحوّل للتّوّ من المعارضة إلى الحكم، بينما انتقل حزب العمل إلى المعارضة. وهكذا ظهرت في الساحة الإسرائيليّة حركة شعبيّة ومعارضة قويّة لسياسة الحكومة في ذلك الوقت. لقد بلغت ذروة تلك المعارضة في المظاهرة الكبرى الّتي جرت في تل-أبيب إثر المجزرة الّتي نفّذتها القوات اللّبنانيّة في صبرا وشاتيلا آنئذ.
ورغم ذلك فقد بقيت إسرائيل محتلّة لأجزاء من لبنان لثماني عشرة سنة لاحقة، ما أدّى إلى ظهور مقاومة لبنانية من جميع الشرائح اللّبنانيّة ضدّ هذا الاحتلال الإسرائيلي وإيجاعه بضرباتها، حتّى اضطرّت إسرائيل بسبب خسائرها في لبنان، والأهمّ من ذلك بسبب تعاظم حركة المعارضة الشعبيّة الإسرائيليّة لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان. على هذه الخلفيّة جاء قرار إيهود براك، رئيس الحكومة الأسبق بالانسحاب من لبنان حتّى الحدود المعترف بها دوليًّا، ومثلما صادقت عليه الأمم المتّحدة والمجتمع الدّولي.

***
مع خمود نيران الحرب الأهلية اللّبنانيّة تمّ تفكيك ونزع أسلحة جميع المليشيات الّتي تعاركت في الحرب الأهليّة، غير أنّ حزب الله رفض نزع أسلحته بذريعة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان. وبسبب هشاشة الوضع اللّبناني وبسبب كون خيوط الدمية اللّبنانيّة يتمّ تحريكها عن بعد من طهران ومن دمشق، وبسبب استمرار الوجود الإسرائيلي في تلك الفترة فقد بقي حزب الله هو الفصيل الوحيد الّذي يملك السّلاح على الساحة اللبنانيّة وخارج الشرعيّة اللبنانية.
ليس هذا فحسب، بل إنّ القوى الفاعلة في المنطقة، أصرّت على إبقائه لأنّها وجدت في حزب الله فرصة كي يقوم هذا الفصيل اللّبناني بلعبتها بعيدًا عن حدودها. إذ يرغب ملالي إيران في تصدير ثورتهم الإسلامية من أجل الإبقاء على حرارة هذه الثّورة والإبقاء على إحكام سيطرتهم على الشّعب الإيراني الّذي يحلم في السرّ والعلن في الفكاك من قبضتهم، والعودة إلى العالم المنفتح الرّحب. ولهذا السّبب أيضًا زوّدوا حزب الله وعبر بوّابة دمشق بصواريخ بعيدة المدى وذلك لالتقاء مصالح ملالي إيران والبعث القبلي في هذه المرحلة. هؤلاء الملالي لم يزوّدوا لبنان والجيش اللّبناني بهذه الصواريخ، بل زوّدوها لحزب الله الّذي يعمل خارج الشرعيّة اللّبنانيّة لغرض في نفس خامنئي ولغرض في نفس الأسد. أي إلى أن يتمّ تحريك هذه الدّمية من طهران ومن دمشق وفي السّاعة الّتي يراها هذان النّظامان مناسبة. ما من شكّ في أنّ هذه الصّواريخ لم تزوّدها إيران لحزب الله مثلاً من أجل إطلاق سراح الأسرى اللّبنانيين ولا الفلسطينيين في معتقلات البعث (هل سمعتم حزب الله يتحدّث عن هؤلاء؟)، وإنّما هي موجّهة إلى مكان آخر، أي إلى إسرائيل، إذ لا يُخفي ملالي إيران ودميتهم في رئاسة إيران أحمدي نجاد عن رغبتهم في محو إسرائىل من الخارطة. ولهذه الأسباب مجتمعة، فإنّ هذه الحرب من وجهة النّظر الشعبيّة والرسميّة الإسرائيليّة ستندرج بلا شكّ في خانة quot;حرب اللاّ-خيارquot; المدعومة بخلفيّة المحرقة الّتي يعزّزها ملالي إيران وأعوانهم بتصريحاتهم. وعلى هذه الصّورة ينظر إليها أيضًا المجتمع الدّولي والكثير من الدّول العربيّة الّتي يعيث فيها الإرهاب فسادًا.

من الجهة الأخرى، رغب البعث القبلي الحاكم في سورية، ولغرض في نفس الأسد، الأب من قبل والابن من بعد، في استمرار لسع إسرائيل بواسطة حزب الله، من أجل أن يقوم هذا الفصيل اللّبناني بمحاربة إسرائيل نيابة عنه، وكوسيلة ضغط لاستعادة الجولان السّوري المحتلّ. لقد كتبت في مقالة سابقة أنّ البعث القبلي السّوري مستعدّ أن يحارب إسرائيل حتّى آخر قطرة دم لبنانيّة، بينما جبهته في الجولان تبقى هادئة. وها هي إسرائيل تدمّر بنى لبنان، ناهيك عن الضّحايا والمعاناة الكبيرة الّتي يعانيها لبنان وإهله ، وإن لم نقل لبنان، فلنقل حلفاءه في لبنان، بينما quot;جيش البعث العربي الباسلquot; يتفرّج على ما يجري في شاشات الفضائيّات، مثلما تفرّج على خراب لبنان طوال العقود الأخيرة. إنّ من لا يفهم هذه الحقائق الدّامغة، فلن يفهم ما يجري في هذه البقعة أبدًا، وسيستمرّ في دسّ رأسه في الرّمال.
لهذا السّبب أيضًا، ورغم الإنسحاب الإسرائيلي الكامل من لبنان، وباعتراف الأمم المتّحدة والعالم بهذه الحدود الدّوليّة، فقد طفت على السّطح قضيّة مزارع شبعا، لتشكّل ذريعة جديدة لدى حزب الله للإبقاء على سلاحه بحجّة أنّ ثمّة جزء من لبنان لم يُحرّر بعد. إنّها مجرّد حجّة ليس إلاّ، لأنّ النّظام السّوري أصلاً لا يعترف رسميًّا بلبنانيّة هذه المزارع. ومع أنّ النّظام السّوري يعطي نوعًا من ضريبة كلامية بأنّ المزارع لبنانيّة، فإنّما يعطيها فقط من أجل الاستمرار في لعبة لسع إسرائيل، غير أنّه ولهذا السّبب بالذّات يرفض، ولحجج واهية ومكشوفة، ترسيم الحدود في شبعا ووضع هذا التّرسيم ملكًا لدولة لبنان لتعرضه على طاولة الأمم المتّحدة، ومطالبة إسرائيل بالانسحاب من المناطق.

***
إذن، دعونا الآن نعرض الأمور صراحة. قد يكون حزب الله ولد في السّاحة اللّبنانيّة على خلفيّة أجندة لبنانيّة لتحرير الأراضي اللبنانيّة من الاحتلال الإسرائيلي، غير أنّه ومن زمان طويل لم يعد كذلك. لقد تحوّلت هذه المليشيا أداة تلعب بها قوى إقليميّة لها أجندات تختلف عن أجندات أهل لبنان الحقيقيّة. لهذا السّبب، وكما نُشر في وسائل الإعلام، يحضر وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق ويطلب وقف النّار، كما أذيع عنه. ولهذا السّبب أيضًا يصرّح أحمدي نجاد إيّاه في طهران بأنّ إسرائيل ترغب في احتلال لبنان لأنّها فشلت في قضيّة التّخصيب النّووي الإيراني. إنّ تصريحه هذا يكشف بالضّبط ما يحاول أن يخفيه. إنّ تصريحه هذا يكشف أنّ إيران بالذّات هي من دفعت حزب الله لهذه المغامرة، وذلك لصرف أنظار العالم عن القضيّة النّوويّة الإيرانيّة. وهذا يعني أنّ طهران عبر حلفها مع دمشق هي من تمسك بخيوط دمية حزب الله هذه.
ولهذا السّبب ولأسباب أخرى، أنا على يقين من أنّه حتّى لو تمّ ترسيم الحدود في مزارع شبعا بين سورية ولبنان، فإنّ ملالي إيران والبعث القبلي في دمشق سيواصلون العبث بلبنان من خلال إيجاد ذرائع جديدة لحزب الله للإبقاء على سلاحه، وللإبقاء على ذرائع تشكّل جذوة لمواصلة صراع كبير لا علاقة للبنان ولأهل لبنان به ولا مصلحة لهم به. أقول ذلك، لأنّ الإسلام السّياسي الّذي تطمح إيران إلى تزعّمه في هذه الحقبة الزمنيّة بحاجة ماسّة إلى أعداء، مثلما كان الإسلام كذلك منذ نشأته الأولى في المدينة، فالأعداء هم الوقود الّذي تعمل به ماكينة هذه الأيديولوجيّة، كغيرها من الأيديولوجيّات الاستبداديّة شيوعيّة كانت أم رأسماليّة، بعثيّة كانت أم إسلامية. وإذا لم تجد هذه الأيديولوجيّة أعداء فإنّّها تخلق لها أعداء من تحت الأرض من أجل إشاعة هذا الأفيون الّذي تخدّر به الشّعوب لكي تشغلها عن رؤية حقيقة أوضاعها المزرية. لقد آن الأوان لأن تلتفت الأنظمة العربيّة والنّخب العربيّة الّتي ينخر فيها الفساد والاستبداد حتّى العظم إلى أحوال شعوبها المنكوبة بهذه الأنظمة والأيديولوجيّات.

***
هنالك صنفان من الباكين على الأحوال اللّبنانيّة في هذا الأوان. صنف الصّادقين الّذين يعتصرون ألمًا لرؤية ما يجري، ويتمنّون له ولأهله الخير. والصّنف الآخر هم ممّن ينتمون إلى صنف الكاذبين الّذين في الوقت الّذي يدّعون البكاء فيه على الأبرياء في لبنان، فإنّهم في الوقت ذاته يمجّدون الإرهاب الّذي يحصد مئات وآلاف الأبرياء في العراق. إنّ هذا الصّنف الثّاني من الباكين الكذبة هو أحد أهمّ الأسباب لخراب quot;العقلquot; العربي ولخراب وخواء العرب. وقد روي قديمًا عن أبي ذر الغفاري إنّه كان لا يخشى في الحقّ لومة لائم.
هذه هي الحقيقة المرّة، وإن كان لديكم تفسير آخر، هيّا أرشدونا!

[email protected]