بات مصطلح الإرهاب بوصفه التكثيف الراهن لجملة من المفاهيم والأفكار والأيديولوجيات المعاصرة مصطلحاً ذا دلالة هامة على صعيد الدراسات العلمية والأكاديمية في مختلف المجالات. وإذ يؤدي التداول الزائد إلى التعتيم، أحياناً، على المفهوم الثاوي وراء استخدام المصطلح، فإن مصطلح الإرهاب بما يكتنزه من حمولة سلبية في الغالب بات من الضبابية والهيولى إلى الحد الذي توالت الدراسات لاكتناهه دون أن تصل إلى حد الإشباع منه أو الاتفاق على تحديد مضمونه ودلالته.وعلى الرغم من اختلاف المجالات المعرفية التي تناولت هذا المصطلح (الإرهاب) وتنوعها، فإن كتاب laquo;الإرهاب.. الظاهرة وأبعادها النفسيةraquo;، لمؤلفه الدكتور (ماجد موريس إبراهيم) يندرج في مجال الدراسات المتخصصة في العلوم النفسية في سعي من أصحاب الاختصاص في هذا المجال لرصد العلاقة بين الإرهاب الأبعاد النفسية الناتجة عنه. ويفتتح المؤلف كتابه بالتأكيد على نتيجة استخلصها، على حد زعمه، من مراجعة تاريخ الإرهاب، إذ تبين معه ارتباط العنف في العديد من صوره وأشكالهه بالتراث الديني السائد في عصر ما أو مكان بعينه.
فقد تعمَد الأشوريون قبل المعارك الحربية أن يرددوا الملاحم التي ألفها كهنة سومر القدماء، والتي كانت النذور والطقوس الدينية تشكل شكلاً من أشكال الإقناع، كما كان الدعم الروحي والنفسي للمقاتلين يستمد من الدين الذي كان في نفس الوقت يدعم الأمل في النصر. وفي تاريخ الإغريق يؤكد الباحث على لعب الدين دوراً هاماً في الصراع الدائر بين الفرس والإغريق، والتي انتصر في إحدى معاركها الأثينيون في معركة ماراثون 460 ق.م دون عون من الإسبارطيين الذين كانوا منشغلين بإحياء طقوسهم وشعائرهم الدينية.
ينتقل الكتاب بعد ذلك لبيان جذور الإرهاب الفلسفية والفكرية، ويبين مدى ارتباطه بالشأن السياسي في محاولات الخصوم ترهيب بعضهم البعض. كما حدث ذلك في فرنسا إبان ثورتها الشهيرة، وما رافقها من أعمال إرهابية كان القصد منها ترهيب خصوم الثورة وأعداءها. والحال نفسه يكاد ينطبق على روسيا القيصرية والتي سادتها سلسلة من الأعمال الفوضوية الإرهابية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي ذات الفترة التي زادت فيها أعمال القمع من قبل القيصر. وعلى الرغم من أن هذه الثورة هي التي جاءت بالبلاشفة الروس إلى سدة الحكم وأطاحت بالحكم القيصري، إلا أن لينين رأى أن هذا الفوران الشعبي غير المنظم هو نوع من الفوضوية، معتبراً إياها quot;مرحلة مؤقتةquot;، خشي أن تمتد لتشمل كل أشكال السلطة، وبالذات هو.
يعتقد المؤلف أن الإرهاب شكل من العنف السياسي غير الأخلاقي وغير المبرر، لكنه يرى بناء على ذلك ضرورة تحديد المرجعية الأخلاقية وتقييم المبرر الظاهر والباطن للفعل الإرهابي، الذي ينطوي على مواجهة بين نقيضين، كل نقيض يجد في الصراع المحتدم وجهاً يبرر موقفه ويضفي الشرعية على تصرفاته.
فما يعتبره الشعب (حرب تحرير) يعتبره المحتل (حركة إرهابية)، وما تعتبره الجماعات المتطرفة عنفاً سلطوياً تمارسه الحكومة تعتبره أجهزة الحكم واجباً وطنياً تكلفها به جموع الشعب من أجل الحفاظ على استقرار الوطن وسلامته، وما يعتبره رجال الدين والمحافظون من المفكرين دعماً لثوابت المجتمع، يعتبره بعض المبدعين إحباطاً ووأداً للفكر الحر الابتكاري. فالإرهاب، من وجهة نظر المؤلف، يعدّ ظاهرة صراعية متشابكة العناصر تتنوع أدواتها ولكنها تتمحور في كل أوجهها حول محور الخوف من آخر وتخويفه.
ويعرف الكتاب الإرهاب: بأن ترهب الآخر يعني أن تزرع في نفسه الخوف منك، والخوف نوع من العواطف التي يخبرها الإنسان كما يخبرها الحيوان. تخيف الحيوانات بعضها بعضاً عن طريق الاعتداء الذي يصل إلى حد الفتك بالآخر والتهامه ولكننا في مملكة الحيوان لم نر أبداً أساليب الفتك عن بعد أو أساليب الفتك الجماعي، ولم نعهد حيواناً ينشب مخالبه في حيوان آخر من أجل أن يبث الرعب والخوف في حيوان ثالث بريء لا ذنب له.
ويؤكد المؤلف أن الإرهاب لا ينتسب إلى دولة دون أخرى، ولا يمكننا أن ننعت به ديناً دون آخر. كما لا ينتمي الإرهاب لطبقة اجتماعية أو اقتصادية معينة، ولا لاتجاه فكري أو سياسي، يساري أو يميني. كما أن الإرهاب ليس حكراً على العسكريين، ولا وصمة للمدنيين الغوغاء.
وينتقل الكتاب بعد ذلك للبحث عن مكامن الخوف وهويته في أغوار النفس الإنسانية. أولى حلقات الخوف هي حلقة الخوف من الاتصال؟؟ الانفصال التي تكمن وراء الحوار بين الوليد وأمه، خوف من الانفصال والعزلة وخوف من الاتصال والاحتواء وهو نفس الخوف الذي يفصح عن نفسه في حلقة أخرى من حلقات الخوف وهي حلقة الخوف من الاستقلالية. وتختتم سلسلة حلقات الخوف بذلك الخوف المضمر المعلن ألا وهو الخوف من الموت. الذي هو في نفس الوقت خوف من الوحدة والعزلة والرحيل والمجهول.
واللافت في الكتاب إشارته إلى تاريخ بدء ظهور الإرهاب وربطه زمنياً بظهور اليهود في التاريخ، إذ تعتبر الجماعة اليهودية المعروفة باسم laquo;السيكارينraquo; أول منظمة إرهابية في العالم. ويمتد تاريخ الإرهاب في العصور المسيحية إلى القرن الحادي عشر الميلادي الذي شهد بدء الإعداد للحملات الصليبية في المجتمعات الأوروبية. أما إسلامياً فيرجع تاريخ ارتباط الإرهاب ببعض الجماعات الإسلامية إلى تلك الفترة التي شهدت خروج فرق الخوارج والقرامطة والحشاشين وغيرهم ممن استحلوا سفك الدماء، مروراً بحروب المغول والعثمانيين والاستعمار الحديث.
لقد بدا الكتاب محاولة في طريقة سبر أغوار هذا المصطلح على المستوى النفسي، وبيان تاريخيته وآثاره النفسية والاجتماعية، وعدم إمكانية إلصاق تهمة الاتصاف الدائم به بأي جماعة أو طائفة أو دين مهما كان. ويبقى أن يسهم الكتاب في تنوير العقول الضالة و المضللة على حد سواء إزاء النتائج الكارثية التي يفضي إليها استخدام الإرهاب دون رادع أو هدف، وأهمية التمييز بينه وبين مقاومة الشعوب للطغيان والاحتلال وعدم الدمج بينهم لمآرب سياسية مكشوفة.
الكتاب: الإرهاب.. الظاهرة وأبعادها النفسية.
تأليف: د. ماجد موريس إبراهيم.
الناشر: دار الفارابي، دمشق، طبعة أولى، 2008.
عدد الصفحات: 509.
كاتب وباحث فلسطيني
[email protected]