ما زال الشعب اللبناني ينتظر الحكومة العتيدة.. وما زال الرئيس المكلف سعد الحريري صامتا يوزع كلمات مقتضبة بين حين وآخر وإبتسامات عدة في أحيان أخرى.
وكما جرت العادة فإن الشعب اللبناني لا يشعر بأي تغير طارئ على أوضاع بلاده سواء أكان هناك حكومة فعلية أم حكومة تصريف أعمال أم لم يكن هناك حكومة على الإطلاق. فالأمر سيان.
إذن.. ينتظر الشعب ولادة حكومة جديدة قائمة على محسوبيات وطائفيات وإصطفافات قديمة متجددة.
تدور الأيام والأحوال على ما هي عليه، حكومات تتشكل، وشعب يبقى على حاله في فقره ومشاكله الإجتماعية والسياسية والصحية.كتاب يحللون ويكتبون ويكشفون ولا يكشفون.. والحال تدور وتدور في حلقات مفرغة.
قد يصيب المواطن في هكذا مواقف لحظات من التنور، فيرى بوضوح تام تفاهة ما حدث ويحدث وسيحدث،وقد لا تصيبه هذه اللحظات اطلاقا.
وزراء ونواب وزعماء يتحولون ما ان يتموضعوا في مناصب السلطة خاصتهم، فتنقسم البلاد أفقيا، هم في الجزء الأعلى والشعب في الجزء الأسفل.. وغالبا ما يكون الجزء السفلي هو الجحيم، فلا أحد يجرؤ على إجتياز تلك الحدود الفاصلة،ولا صراخ ولا عويل ولا أنين يصل إلى تلك المساحة العليا. يفكر المواطن أحيانا بفيضانات قد تجتاح البلاد وتمحوها عن بكرة أبيها، بشقيها العلوي والسفلي، بإنفلونزا خنازير تتفشى في البلاد وتنهي كل شيء. لكنه المواطن في هذه اللحظات المظلمة يدرك أن حتى الكوارث الطبيعة والأوبئة لن تعدل بين فقير وغني، بين زعيم ومواطن.فالفقراء يموتون دائما بأشنع الطرق وأكثرها إيلاما، ودائما ما يموت الفقير قبل الغني والمواطن قبل الزعيم.
..بالأمس القريب إحتفل لبنان، أو جزء منه على الأقل بالذكرى الثالثة للإنتصار على إسرائيل.
3 أعوام على إنتهاء حرب تموز 2006 وأعوام أخرى على حروب أخرى إسرائيلية وأهلية. أصوات مدافع عدة، وهدير طائرات متنوعة، وصواريخ تطورت على مر السنوات.. حروب تحتل مساحات كبيرة من الذاكرة. لكن الحروب مع إسرائيل لطالما انتهت بإحتمالات حروب اخرى،وبإحتمالات تحرير جديد ة. وهكذا جاء التحرير تباعا،وجاءت الانتصارات تباعا.ومع ذلك تبقى الاحتمالات مفتوحة على حرب جديدة.
بيروت والضاحية مقابل تل ابيب، مقابل أي قرية أو مدينة في اسرائيل، معادلة جديدة مطمئنة لكنها بالتأكيد لن تعجب البعض.. لن تعجب الكثير من اللبنانيين والعرب.
خلال حرب تموز علت اصوات عدة، مزعجة في أقل توصيف لها. إنقسموا الى معسكرات، وباتت الخلافات أكثر حدة.لم تعد الخلافات مبنية على أسس سياسية أو على أسس طائفية بل باتت منقسمة على عدو..وعلى حرب ضد عدو..وعلى نصر تحقق.
تقول النكتة المتداولة حاليًا إنّ هناك حالات عديدة من الدوار والتقيؤ والإسهال الحاد... والسبب ليس إنفلونزا الخنازير، بل الود السياسي المبالغ به بين أعداء حللوا دماء بعضهم البعض في الأمس القريب.
وليد جنبلاط quot;عدلquot; خطّه السياسي كما يعدل دائمًا خطوطه السياسيّة. من جهة إلى أخرى بسرعة قصوى تدير رؤوس الجميع، يعرف تمامًا متى ينتقي قلب مواقفه، فالتوقيت مهم جدًا كي يبقي نفسه زعيمًا بثقل سياسي كبير. خاف فريق 14 اذار وإستنكر وفرح فريق 8 اذار وترقّب... أمّا جنبلاط فتارة يبرّر وتارة يناور وتارة يهجم، يطرح نفسه كخط وسطي عروبي ويسعى إلى quot;إعادة quot; سعد الحريري الى هذا الخط أيضًا.
ما هو الخط العروبي الخاص بوليد جنبلاط، مما لا شك فيه بأنّه خط متعرّج جدًا.قد يتوقف عن التعرج أحيانًا، وقد ينساب في أحيان اخرى وقد يلتف في دوائر في أحيان اخرى. تقول القاعدة إن اقصر مسافة بين نقطتين هي خط مستقيم، وتقول قاعدة وليد جنبلاط إن اكثر مسافة مربحة بين نقطتين هي خط متعرج ملتف. أعداء الأمس... أحباب اليوم.
... حين غنى الشيخ إمام موت غيفارا وصور عشرات اللمحات عن موت وأنين وألم... عشرات الصور عن مصرع quot;الرجلquot; الذي بموته وضع العالم أمام حتمية تجهيز quot;جيش الخلاص يا تقولو على العالم خلاص quot;.
لكن أحدًا لم يجهز جيش الخلاص، بل إنبثقت جماعات متفرقة هنا وهناك تحتوي بعضًا من مقومات جيش الخلاص هذا، فما كان من البقية الباقية إلا محاولة خنقها وانهائها.
في الاغنية ذاتها التي تنعي وفاة المناضل يحكى عن quot;نضالات اخر الزمن بالعوامات quot;، نضالات نراها يوميًا في مجموعات لا تعرف من الكلمة سوى لفظها، وثورات وزع اصحابها التسميات على انفسهم يمنة ويسارًا... تمامًا كمحلات الفلافل، توزعت الفروع، فرع الثورة 1 وفرع الثورة 2 وفرع الثورة 3.. وبين الاولى والثالثة كثير من الكلام الفارغ.
يطرق رجل ستيني الباب، يرفع يده اليسرى بتحية عاجلة ويمد اليمنى الممسكة بأنبوب بلاستيكي متصل بماكينة صغيرة يحملها على ظهره. يخبر ربة المنزل أن البلدية تطلب منه أن quot;يرش المنزل للتخلص من الصراصيرquot;. إبتسامة باهتة وإبلاغ من السيدة بأنها لا تحتاج إلى ذلك، لأنها لا تعاني من المشكلة اساسًا. يكشف الستيني عن إبتسامة عريضة quot;عالجت منازل جميع الجيران، لذلك فإن الصراصير ستهرب وإن لم يكن منزلكم محصنا فسيكون الهجوم ساحقا عليكم هذه الأيامquot;. تستسلم ربة المنزل وتدخله، ويبدأ عملية رش عشوائية،..ينتهي من عمله ويبلغها أنه يمكنهم البقاء في المنزل شرط تنظيفه بعد ساعتين.. ثم يمد يده ويطلب quot;40 دولارًاquot;. عملية نصب !
لا مهرب إذًا من الصراصير، سواء عانى أهل الدار منها ام لا، ولا مهرب من تبعات الصراصير سواء أكان الهجوم الساحق واقعيًا أم لا.
كما في المجتمع quot;الصراصيريquot; كذلك في السياسة، وكما يقال quot;بعيد القياس والتشبيه quot; بين صرصور وسياسي.. لكن الواقع الهجومي يؤكد انه سواء أقحم المواطن نفسه فيquot; المعركة quot; أم لا، وسواء حاول تفادي تعرضه لعمليات نصب متكررة وسواء حيّد نفسه عن كل ما يحصل ام لا.. فإنه يقع في الفخ مرة تلو الاخرى لأنها (..) تحاصره من كل حدب وصوب.
*تجدر الإشارة إلى الإستعارة الفاضحة والواضحة في عنوان المقال من رواية غابريال غارسيا ماركيز quot;قصة موت معلن quot;..فاقتضى التوضيح والتنويه.