وجّه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر رسالة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما عبر صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، دعاه فيها إلى إقامة نظام عالمي جديد، وتحديد أهداف أميركا الكبرى، وفي طليعتها تدمير تنظيم داعش، قبل التفكير في مصير بشار الأسد في سوريا.
إيلاف - متابعة: قال الدبلوماسي الأميركي الشهير للرئيس أوباما في رسالته، إن الولايات المتحدة تحتاج نظامًا عالميًا جديدًا، يُمكن بفضله للقوى الكبرى، استعادة الحوار بينها واعتماد مبدأ التوافقات الضرورية.
وبتعرّضه للأزمة السورية، قال كيسينجر، إن "الولايات المتحدة تحتاج، استراتيجيةً جديدةً، خاصة في الشرق الأوسط، الذي انهارت فيه كل التوازنات الجيو- سياسية، ما أفقدنا القدرة على التكيف مع المستجدات والأحداث".
وأضاف كيسنجر، متحدثاً عن الأزمة بين واشنطن وموسكو، أن "الاتفاق مع بوتين حول الوضع السوري، لا يُعارض بالضرورة مصالحنا القومية، فتدمير داعش هو الضرورة الأولى، قبل التفكير في مصير بشار الأسد".
واكد بعد استعراضه مختلف التحديات التي تواجهها المنطقة من سوريا إلى العراق ومن اليمن إلى ليبيا، ومن الهجرة واللجوء، إلى الإرهاب والطائفية، والجريمة المنظمة والتحديات الكثيرة الأخرى التي تعجّ بها، أكد على ضرورة ان تختار الولايات المتحدة الدور الذي تريد أن تلعبه في منطقة الشرق، علماً أن الشرق الأوسط، سيكون الاختبار العاجل الذي يجب عليها أن تخوضه، وربما يكون الاختبار أو التحدي الأصعب".
وتابع ان الرد على السؤال لن يكون بتسخير أقوى الأسلحة الأميركية، ولكن حتماً بتصميم الولايات المتحدة وقدرتها على الوصول إلى تفاهمات العالم الجديد".
تغيير استراتيجيات
رأى هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي في عهدي الرئيسيْن نيكسون وفورد، في مقال نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" أنه بوجود روسيا في سوريا، صار الهيكل الجغرافي السياسي، الذي دام أربعة عقود من الزمن، في حالة من الفوضى التامة، مؤكدًا أن الولايات المتحدة باتت بحاجة إلى استراتيجية وأولويات جديدة.
وقال كيسنجر في مستهل مقاله إنه لم يكد يبدأ النقاش حول ما إذا كانت خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران بخصوص برنامجها النووي ثبّتت إطار الشرق الأوسط الاستراتيجي حتى انهيار إطاره الجغرافي السياسي، معتبرًا أن العمل العسكري الأحادي، الذي قامت به روسيا في سوريا، أحدث عرَض من أعراض انهيار الدور الأميركي في تثبيت نظام الشرق الأوسط، الذي خرج إلى الوجود من رحم الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973.
&
وأوضح أنه في أعقاب ذلك الصراع، تخلت مصر عن علاقاتها العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، وانضمت إلى عملية تفاوض تدعمها الولايات المتحدة، تمخضت عن اتفاقيات سلام بين إسرائيل ومصر، وإسرائيل والأردن، واتفاقية فض اشتباك تشرف عليها الأمم المتحدة بين إسرائيل وسوريا، حظيت بالامتثال على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن (حتى من قبل أطراف الحرب الأهلية السورية)، ومساندة دولية لسلامة أراضي لبنان وسيادته. وفي ما بعد ذلك، مني صدام حسين بالهزيمة في الحرب التي شنها لضم الكويت إلى العراق على أيدي ائتلاف دولي تحت قيادة الولايات المتحدة.
&
الصراع المذهبي
أسفر هذا الادعاء من جانب تنظيم داعش، بحسب الكاتب، عن إضفاء بُعد فنائيّ على الانقسام بين الطائفتين الشيعية والسنية الإسلاميتين، الذي مضى عليه ألف سنة، حيث تستشعر الدول السنية الباقية التهديد من كل من الحماسة الدينية التي يظهرها داعش وأيضاً من إيران الشيعية، التي ربما تكون أقوى دولة في المنطقة، على حد وصف كسينجر.
وتفاقم إيران التهديد الذي تشكله بتقديم نفسها بصفة ثنائية. فعلى أحد المستويات، تتصرف إيران كدولة "وستفالية" شرعية ذات سيادة تمارس دبلوماسية تقليدية بل وتطبق تدابير النظام الدولي الاحترازية. وفي الوقت نفسه نجدها تنظّم وترشد أطرافاً فاعلة من غير الدول تسعى إلى تحقيق الهيمنة الإقليمية انطلاقاً من مبادئ جهادية، في إشارة إلى حزب الله في لبنان وسوريا، وحماس في غزة، والحوثيين في اليمن.
&
ابتلاع الشرق
وهكذا نجد الشرق الأوسط السني عرضة لخطر الابتلاع من أربعة مصادر متزامنة، وهي وفقاً للكاتب: إيران التي يحكمها الشيعة وما لديها من إرث إمبريالي فارسي، والحركات الراديكالية أيديولوجيا ودينيّاً التي تناضل لإطاحة الهياكل السياسية السائدة، والصراعات الراهنة داخل كل دولة بين جماعات إثنية ودينية جُمّعت عشوائيّاً بعد الحرب العالمية الأولى على هيئة دول (آخذة الآن في الانهيار)، والضغوط المحلية النابعة من اتباع سياسات داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية وخيمة.
&
اتجاهات متضاربة
وبحسب كسينجر، مكّنت هذه الاتجاهات المتضاربة، التي يفاقمها انسحاب أميركا من المنطقة، روسيا من الانخراط في عمليات عسكرية في عمق الشرق الأوسط، وهو ما يمثل عملية نشر غير مسبوقة في التاريخ الروسي. شغل روسيا الشاغل هو إمكانية تمخّض انهيار نظام الأسد عن تكرار الفوضى الليبية والإتيان بالدولة الإسلامية في العراق وسوريا إلى السلطة في دمشق، وتحول سوريا كلها إلى مأوى للعمليات الإرهابية، التي ستصل إلى المناطق المسلمة داخل حدود روسيا الجنوبية في إقليم القوقاز وأماكن أخرى.
&
على السطح، يخدم تدخّل روسيا سياسة إيران المتمثلة في الإبقاء على العنصر الشيعي في سوريا. لكن من منظور أعمق، لا تتطلب أغراض روسيا استمرار حكم الأسد لأجل غير محدود. إنها مناورة كلاسيكية من مناورات توازن القوى لتحويل التهديد الإرهابي المسلم السني من المنطقة الحدودية الجنوبية في روسيا، على حد وصف الكاتب، مضيفاً أن هذا يمثل تحديّاً جغرافيّاً سياسيّاً لا أيديولوجيّاً وينبغي أن يُتعامل معه على ذلك المستوى. فمهما كان الدافع، تتمخض القوات الروسية في المنطقة، ومشاركتها في عمليات قتالية، عن تحدٍ لم تواجه السياسة الأميركية الشرق أوسطية مثله منذ أربعة عقود من الزمن على الأقل.
&
فقدان القدرة على تشكيل الأحداث
وأوضح الكاتب أن السياسة الأميركية سعت إلى التظاهر بتأييد دوافع كل الأطراف ومن ثم فهي على شفا فقدان قدرتها على تشكيل الأحداث. فالولايات المتحدة تتخذ الآن موقفاً معارضاً لكل الأطراف في المنطقة، أو إن شئت قل: في خلاف معها بصورة أو بأخرى. فهي في خلاف مع مصر بشأن حقوق الإنسان، ومع كل طرف من الأطراف السورية بشأن مختلف الأهداف. وتجاهر الولايات المتحدة بإصرارها على رحيل الأسد عن منصبه، لكنها ظلت غير راغبة في ممارسة التأثير الفعال، سياسيّاً كان أم عسكريّاً، لتحقيق ذلك الهدف. كما لم تطرح الولايات المتحدة هيكلاً سياسيّاً بديلاً للحلول محل الأسد في حالة ما إذا تحقق رحيله بطريقة أو بأخرى.
&
ويتابع الكاتب بقوله: انتقلت السياسة الأميركية تجاه إيران إلى صميم السياسة الشرق أوسطية، حيث أصرت الإدارة على أنها ستتخذ موقفاً ضد المخططات الجهادية والإمبريالية التي تدبرها إيران، وأنها ستتعامل بصرامة مع انتهاكات الاتفاقية النووية. لكنها تبدو أيضاً، بحسب كيسنجر، ملتزمة التزاماً عميقاً بإنهاء البعد العدواني العدائي الذي تتسم به السياسة الإيرانية من خلال تطور تاريخي يعززه التفاوض.
&
الانفتاح على الصين
وأوضح كسينجر أنه غالباً ما يقارن أنصار السياسة الأميركية المتبعة تجاه إيران هذه السياسة بانفتاح إدارة نيكسون على الصين، وهو الانفتاح الذي ساهم على الرغم مما واجه من معارضة داخلية، في إحداث تحول نهائي في الاتحاد السوفيتي وإنهاء الحرب الباردة. وهذه المقارنة ليست في محلها، برأي كسينجر، موضحاً أن الانفتاح الأميركي على الصين عام 1971 كان يستند إلى الاعتراف المتبادل من جانب كلا الطرفين بأن الحيلولة دون الهيمنة الروسية في أوراسيا تصب في مصلحتهما المشتركة. وكان وجود 42 فرقة عسكرية سوفيتية على طول الحدود الصينية السوفيتية يعزز تلك القناعة. ولا يوجد توافق استراتيجي مماثل بين واشنطن وطهران، بحسب الكاتب. بل على النقيض من ذلك، وصف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله خامنئي، في أعقاب الاتفاقية النووية مباشرة، الولايات المتحدة بالشيطان الأكبر ورفض المفاوضات مع أميركا بشأن المسائل غير النووية. واستكمالاً لهذا التشخيص الجغرافي السياسي، تنبأ خامنئي أيضاً بأن إسرائيل ستزول من الوجود في غضون 25 سنة.
&
الكارثة أمر شبه حتمي
لكن الأزمة الراهنة تجري في عالم قوامه التكنولوجيا النووية والإلكترونية غير التقليدية، على حد وصف كسينجر. وفيما تناضل القوى الإقليمية المتنافسة على الوصول إلى قدرات عتبة نووية متماثلة، قد يتداعى نظام منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط. "ولو صارت الأسلحة النووية واقعاً مستقراً، سيصير حدوث محصلة كارثية أمراً شبه حتمي. فاستراتيجية الاستباق متأصلة في التكنولوجيا النووية. ويجب أن تكون الولايات المتحدة عاقدة العزم على الحيلولة دون هذه المحصلة وتطبيق مبدأ عدم الانتشار على كل الطامحين النوويين في المنطقة".
&
التعليقات